قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ﴾ ؛ أي صَيَّرْنَا النطفةَ دَماً منعَقِداً، ثم صيَّرنا الدمَ لَحماً بلا عظمٍ، والْمُضْغَةُ : هي القطعةُ الصغيرة من اللَّحم. وقولهُ تعالى :﴿ فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً ﴾ ؛ أي حولنا المضغة عظاماً، ﴿ فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ﴾ ؛ أي ثم ألبسنا العظام لحماً ؛ ليكون أبهى في النظر وليكون اللحم وقاية للعظم. وقرأ ابن عامر :(فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عَظْماً فَكَسَوْنَا الْعَظْمَ لَحْماً).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ ﴾ ؛ بأنْ جعلنا فيه الرُّوحَ بعد أن لَم يكن، ثُم جعلناه ذكَراً أو أُنْثَى إلى أن أعطيناهُ الفهمَ والتمييز ليأخذ ثَدْيَ أمِّهِ عند الحاجةِ فيرتضعُ ويشتكي إذا تَضَرَّرَ بشيءٍ. وقال مجاهدُ :(مَعْنَى قَوْلِهِ :﴿ ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ ﴾ يَعْنِي سَوَّيْنَا شَبَابَهُ). وقال قتادةُ :(يَعْنِي أنْبَتْنَا شَعْرَهُ وَأسْنَانَهُ). وَقِيْلَ : معناهُ : أعطيناهُ العقلَ والقوَّةَ والفهمَ، ورَبَّيْنَاهُ حالاً بعد حالٍ إلى أن بلغَ أن يتقلَّبَ في البلادِ.
وَقِيْلَ : إذا اجتمعَ الماءُ المتخلِّقُ منه الولدُ، فأولُ الحالاتِ أن يزيدَ، ثُم يستحيلُ ذلك الماءُ علقةً، وهو دمٌ غبيطٌ، ثُم يصيرُ مُضغةً، وفي تلك الحالةِ تظهرُ الأعضاءُ النَّفِيْسَةُ كالقلب والدِّماغ والكبدِ، فالقلبُ أول عُضْوٍ مكّوَّنٍ ثُم الدماغُ ثُم الكبد، ثُم يُنَحَّى بعضُها عن بعضٍ، وتخطَّطُ الأطرافُ، ثُم يصير لَحماً على عِظَامٍ، وعظامُ البَدَنِ مائتان وأربعونَ عَظْماً، فإذا نُفِخَ فيه الروحُ لأربعةَ أشْهُرٍ انقسمَ دمُ الحيضِ ثلاثةَ أقسامٍ : قسمٌ يتغذى به الولدُ، وقسم يَحْتَبسُ إلى النِّفَاسِ، وقسمٌ يصعدُ إلى الثَّدي.
وإنَّما ينفخُ الرُّوحُ في الجنينِ لأربعةِ أشهُرٍ ؛ لأنه يكون نظفةً أربعين يوماً، ثُم يكون علقةً أربعين يوماً، ثُم يصير مضغةً أربعين يوماً، ثُم ينفخُ فيه الرُّوحُ. ويكون الولدُ في بطنِ أُمِّهِ معتمداً على رجليه وراحة يدَيه على رُكبتيه وظهرهُ إلى وجهِ الأم، ووجههُ إلى ظهرِها حتى لا تتأذى الأمُّ بنَفَسِهِ.
وإنَّما خَلَقَ اللهُ عَيْنَيْهِ في رأسهِ لتكونُ مشرفةً على جميعِ الأعضاء في الجهات كلها، كالطَّليعةِ للعسكرِ، وأصلحُ المواضع للطلائعِ المكانُ الْمُشْرِفُ، وجعلَهُما في كَهْفَين حراسةً لَهما وتوفيراً لضوئِهما، وجعلَ لَهما الْهُدُبَ ليدفعَ ما نظر إليهما.
وخلقَ اللهُ الأنفَ لينحصرَ فيه الهواءُ الْمُسْتَنْشَقُ لترويحِ الرِّئة والدماغ. وخلقَ الفَمَ وعاءً لجميعِ الكلام، وخلقَ اللِّسان آلةً للنُّطقِ، ولتقليب الطعام الممضوغِ، والمضغُ يكون في جانِبَي الفمِ حراسةً لأداةِ النُّطق. وخلقَ الشَّفَتين غطاءً للفمِ والأسنانِ، ويَحْجُبَ اللُّعَابَ، ومُعيناً على الكلامِ، وجَمالاً في الصُّورة، والأسنانُ تُقَطِّعُ ؛ والأنبابُ تكسرُ ؛ والأضراسُ تطحَنُ. وخصَّ الفكَّ الأسفلَ بالتحريكِ ؛ لأن تحريكَ الأخفِّ أحسنُ، لأن الأعلى يشتملُ على الأعضاءِ الشَّريفة فلم يُخاطرها في الحركةِ ؛ لأن الحركةَ تُضْعِفُهَا. وجعلَ ماءَ الأُذُنِ مُرّاً لئلاَّ يقيمَ فيه الْهَوَامُ، فإذا دخلَ الأُذُنَ دابَّةً لَم يكن لَها هَمٌّ إلاّ الخروجَ. وجعلَ ماءَ العين مالحاً لئلاَّ يذوبَ، وجعل ماءَ الفمِ عَذِباً ليُطَيِّبَ طعمَ الطعام.