قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُهَاجِرِيْنَ، دَخَلُواْ الْمَدِيْنَةَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَسَاكِنُ وَلا مَالٌ يَأْكُلُونَ مِنْهُ وَلاَ أهْلٌ يَأْوُونَ إلَيْهِمْ، وَفِي الْمَدِيْنَةِ بَاغِيَاتٌ سَافِحَاتٌ يَكْرِيْنَ أنْفُسَهُمَّ وَيَضْرِبْنَ الرَّايَاتِ عَلَى أبْوَابهِنَّ يَكْتَسِبْنَ بذلِكَ، وَكَانَ أُوْلَئِكَ الْمُهَاجِرِيْنَ الْفُقَرَاءَ يَطْلُبُونَ مَعَايشَهُمْ بالنَّهَارِ وَيَأْوُونَ إلَى الْمَسَاجِدِ باللَّيْلِ، فَقَالُواْ : لَوْ تَزَوَّجْنَا مِنْهُنَّ فَعِشْنَا مَعَهُمْ إلَى يَوْمِ يُغْنِيْنَا اللهُ عَنْهُنَّ، وَقَصَدُواْ أنْ يَتَزَوَّجُوهُنَّ وَيَنْزِلُواْ مَنَازِلَهُنَّ، وَيَأْكُلُواْ مِنْ كَسْبِهنَّ، فَشَاوَرُواْ النَّبيَّ ﷺ فِي ذلِكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ، فَنُهُواْ أنْ يَتَزَوَّجُوهُنَّ عَلَى أنْ يُحِلُّوهُنَّ وَالزِّنَا).
والمعنى : لا يرغبُ في نكاحِ الزانية إلاّ زَانٍ مثلُها، ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ ﴾[النور : ٢٦] مَيْلُ الخبيثِ وميلُ الطيِّب إلى الطيب، وقد يقعُ الطيبُ مع الخبيثِ، لكن الأعمَّ والأغلبَ ما ذكرنا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ؛ أي حُرِّمَ على المؤمنينَ تزويجُ تلك الباغياتِ المعلِنات بالزِّنا، وفيه بيانُ أن مَن يتزوجُ بامرأةٍ منهنَّ فهو زَانٍ، فالتحريمُ كان خاصَّة على أولئكَ دون الناسِ.
ومذهبُ سعيدِ بن المسيَّب : أنَّ التحريمَ كان عامّاً عليهم وعلى غيرِهم، ثُم نُسِخَ التحريمُ بقولهِ تعالى﴿ وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَى مِنْكُمْ ﴾[النور : ٣٢]، فإن تزوجَ الرجلُ امرأةً وعاينَ منها الفجُورَ لَم يكن ذلك تَحريْماً بينَهما ولا طَلاقاً، ولكنه يُؤْمَرُ بطلاقِها تَنَزُّهاً عنها، ويخافُ عليه الإثمَ في إمساكِها ؛ لأن اللهَ تعالى شَرَطَ على المؤمنين نكاحَ الْمُحصَناتِ من المؤمناتِ.
" ورويَ أنَّ رَجُلاً قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ إنَّ امْرَأتِي لاَ تَرُدُّ يَدَ لاَمِسٍ! فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ ﷺ :" طَلِّقْهَا " فَقَالَ : إنِّي أُحِبُّهَا، وَأخَافُ إنْ طَلَّقْتُهَا أنْ أُصِيْبَها حَرَاماً، فَقَالَ لَهُ :" أمْسِكْهَا إذاً ". إلاّ أنَّ هذا الحديثَ فيه خلافُ الكتاب ؛ لأن اللهَ تعالى أذِنَ في نكاحِ الْمُحصَناتِ، ثُم أنزلَ اللهُ في القاذفِ لامرأته آيةَ اللِّعانِ، وسَنَّ رسولُ الله ﷺ التفريقَ بينهما، ولا يجتمعان أبداً، فكيفَ يأمرهُ بالوقفِ على عاهرةٍ لا تَمتنعُ عمَّن أرادَها، والحديثُ الذي ذُكِرَ لَم يصِحَّ عن رسولِ الله ﷺ، ثُم إنْ صَحَّ فتأويلهُ أنَّها امرأةٌ ضعيفةُ الرَّأيِ في تضييعِ مال زوجِها، فهي لا تَمْنعهُ مِن طالبٍ ولا تحفظهُ من سارقٍ، وهذا التأويلُ أشبهُ بالنبيِّ ﷺ وأحرَى لحديثهِ. ويحتملُ أن يكون قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ إشارةً إلى الزِّنا.
وعن عمرٍو بن شُعيبٍ عن أبيه عن جدِّه :(أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي مَرْثَدَ الْغَنَوِيِّ، كَانَ قَدْ أمَرَهُ النَّبيُّ ﷺ وَكَانَ يَحْمِلُ ضَعَفَةَ الْمُسْلِمِيْنَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِيْنَةِ، وَمِنَ الْمَدِيْنَةِ إلَى مَكَّةَ، وَكَانَتْ لَهُ صَدِيْقَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُقَالُ لَهَا : عِنَاقٌ، فَلَقِيَتْهُ بمَكَّةَ فَدَعَتْهُ إلَى نَفْسِهَا فَأَبَى وَقَالَ : إنَّ الإسْلاَمَ قَدْ حَالَ دُونَ ذلِكَ، فَقَالَتْ لَهُ : فَانْكَحْنِي، فَقَالَ : حَتَّى أُشَاوِرَ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَسَعَتْ بهِ إلَى الْمُشْرِكِيْنَ، فَهَرَبَ إلَى الْمَدِيْنَةِ وَأخْبَرَ النِّبيَّ ﷺ وَشَاوَرَهُ فِي تَزَوُّجِهَا، فأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).


الصفحة التالية
Icon