قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :" وَذلِكَ أنَّ مَلَكاً أُنْزِلَ مِنَ السَّمَاءِ، فَقَالَ لِلنَّبيِّ ﷺ : إنَّ اللهِ يُخَيِّرُكَ بَيْنَ أنْ يُعْطِيْكَ خَزَائِنَ كُلِّ شَيْءٍ، وَمَفَاتِيْحَ كُلِّ شَيْءٍ لَمْ يُعْطَهَا أحَدٌ قَبْلَكَ، وَلَمْ يُعْطَهَا أحَدٌ بَعْدَكَ مِنْ غَيْرِ أنْ يُنْقِصَكَ شَيْئاً مِمَّا ادَّخَرَ لَكَ فِي الآخِرةِ، وَبَيْنَ أنْ يَجْمَعَهَا لَكَ فِي الآخِرَةِ، فَقَالَ ﷺ :" بَلْ يَجْمَعُهَا لِي فِي الآخِرَةِ) ".
وَقَالَ ﷺ :" خَيَّرَنِي جِبْرِيْلُ بَيْنَ أنْ أكُونَ نَبيّاً مَلِكاً وَبَيْنَ أنْ أكُونَ نَبيّاً عَبْداً، فَاخْتَرْتُ أنْ أكُونَ نَبيّاً عَبْداً ؛ أشْبَعُ يَوْماً وَأجُوعُ يَوْماً، أحْمَدُ اللهَ إذا شَبعْتُ، وَأتَضَرَّعُ إلَيْهِ إذا جِعْتُ ".
و " كان ﷺ يَأكُلُ عَلَى الأَرْضِ، وَيَجْلِسُ جَلْسَةَ الْعَبْدِ، وَيَخْصِفُ النَّعْلَ، وَيُرَقِّعُ الثَّوْبَ، وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَاري، وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ، وَكَانَ قَدْ مَاتَ ذِكْرُ الدُّنْيَا عَنْ نَفْسِهِ، وَيَقُولُ :(وَا عَجَباً كُلَّ الْعَجَب لِلْمُعْتَرِفِ بدَارِ الْخُلُودِ وَهُوَ يَعْمَلُ لِدَارِ الْغُرُور) ".
ومعنى الآية : تَبَارَكَ وتعالى إنْ شاءَ يجعلُ لكَ خيراً مما قالوهُ في الدُّنيا من جناتٍ وقصُورٍ، وإنْ شاءَ يجعل لكَ قصُوراً في الدُّنيا ؛ أي لو شاءَ جعلَ لك أفضلَ من الكنْزِ والبستان الذي ذكَرُوا، ويجعل لكَ جناتٍ تجري من تحتِها الأنْهارُ يعني في الدُّنيا ؛ لأنه قد شاءَ أن يعطيَهُ في الآخرةِ.
وقولهُ تعالى ﴿ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً ﴾ مَن قرأ بالجزمِ، كان المعنى إن شاءَ جَعَلَ لكَ الجناتِ ويجعل لك قصُوراً في الدُّنيا، لأنه قد شاءَ، وإنَّما لَم يجعلِ الحكمةَ التي أوجبت لك. قرأ ابنُ كثير وابن عامر وعاصمُ :(وَيَجْعَلُ) بالرفعِ على الاستئناف بمعنى : وسيجعلُ لكَ قصُوراً في الجنَّةِ في الآخرةِ. والقُصُورُ : هي البيوتُ المشيَّدَةُ، سُمِّي القَصْرُ قَصْراً ؛ لأنه قُصِرَ ومُنِعَ مِن الوُصولِ إليه.
وعن ابنِ عبَّاس أنه قالَ :" لَمَّا عَيَّرَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللهِ ﷺ بالْفَاقَةِ فَقَالُواْ : مَا لِهَذا الرَّسُولِ يَأَكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ، وَيَمْشِي فِي الْمَعَاشِ، تَعِبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ ذلِكَ، فَنَزَلَ جِبْرِيْلُ عليه السلام مُعَزِّياً لَهُ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ رَبُّكَ يُقْرِؤُكَ السَّلاَمَ وَيَقُولُ :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ ﴾ [الفرقان : ٢٠] لِطَلَب الْمَعَاشِ فِي الدُّنْيَا.
فَبَيْنَمَا جِبْرِيْلُ وَالنَّبيُّ ﷺ يَتَحَدَّثَانِ إذْ أقْبَلَ رضْوَانُ خَازِنُ الْجِنَانِ فَسَلَّمَ عَلَى النِّبيِّ ﷺ وَمَعَهُ مِنْ نُورٍ يَتَلأْلأُ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ رَبُّكَ يُقْرِؤُكَ السَّلاَمَ، وَيَقُولُ لَكَ : هَذِهِ مَفَاتِِيْحُ خَزَائِنِ الدُّنْيَا مَعَ أنَّهُ لاَ يُنْقَصُ حَظُّكَ فِي الآخِرَةِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، فَنَظَرَ النَّبيُّ ﷺ إلَى جِبْرِيْلَ مُشِيْراً، ثُمَّ قَالَ :" يَا رضْوَانُ ؛ لاَ حَاجَةَ لِي فِيْهَا، الْعَفْوُ أحَبُّ إلَيَّ وَأنْ أكُونَ عَبْداً صَابراً شَكُوراً حَامِداً مِنَ السَّمَاءِ " فَرَفَعَ جِبْرِيْلُ رَأسَهُ، فَإذا السَّمَوَاتُ قَدْ فُتِحَتْ أبْوَابُهَا إلَى الْعَرْشِ، فَأَوْحَى اللهُ تَعَالَى إلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ أنْ تُدْلِي أغْصَانَهَا، فَإذا غُرْفَةٌ مِنْ زُبُرْجُدَةٍ خَضَرَاءَ لَهَا سَبْعُونَ ألْفَ بَابٍ مِنْ ياقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، فَقَالَ جِبْرِيْلُ : يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ بَصَرَكَ، فَرَفَعَ فَرَأى مَنَازِلَ الأَنْبيَاءِ قَدْ فَصَلَ بهَا مِنْ دُونِهِمْ، وَإذا بمُنَادٍ : أرَضِيْتَ يَا مُحَمَّدُ ؟ فَقَالَ ﷺ :" قَدْ رَضِيْتُ ".