قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْس وَالطَّيْرِ ﴾ ؛ أي جُمِعَ له من كلِّ جهةٍ جماعةٌ من الجنِّ والإنس والطَّيرِ. والْحَشْرُ : جمعُ الْخَلْقِ من موضعٍ إلى موضع، ومنهُ الْمَحْشَرُ لِعَرَصَاتِ يَوْمَ القيامةِ. قال ابنُ عبَّاس :(كَانَ مُعَسْكَرُ سُلَيْمَانَ مِائَةُ فَرْسَخٍ، خَمْسَةٌ وَعُشْرُونَ فَرْسَخاً لِلإنْسِ، وَخَمْسَةٌ وَعُشْرُونَ فَرْسَخاً لِلجِنِّ، وَخَمْسَةٌ وَعُشْرُونَ فرْسَخاً لِلسِّبَاعِ، وَخَمْسَةٌ وَعُشْرُونَ فرْسَخاً لِلطَّيْرِ).
ووجهُ تسخيرِ الطَّير له أنَّ الله زادَ في عقُولِها حتى كانت تفهمُ ما يقالُ ويراد منها، وتقبلُ الأدَبَ وتخافُ وتحذر، وكان لسليمانَ عليه السلام ألفُ بيتٍ من قَوَاريْرَ على الخشب، فيها ثَلاثُمائة صريحة، وسَبْعُمائة سَرِيَّةٍ، فيأمرُ الرِّيحَ العاصفَ فترفعه، ويأمرُ الرَّحا فتسيرُ به، فأوحَى اللهُ وهو يسيرُ بين السَّماء والأرضِ : أنِّي قَدْ زدْتُ فِي مُلْكِكَ أنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ أحَدٌ مِنَ الْخَلاَئِقِ إلاَّ جَاءَتْ بهِ الرِّيْحُ فَأَخْبَرَتْكَ بهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ ؛ قال قتادةُ :(كَانَ عَلَى كُلِّ صِنْفٍ مِنْ جُنُودِهِ وَزْعَة تَرِدُ أُوْلاَهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ لِيَجْتَمِعُواْ وَيَتَلاَحَقُواْ) وهو من الوَزْعِ الذي هو الكَفُّ، يقالُ : وَزَعْتُهُ وَزْعاً، والشَّيْبُ وَازعٌ ؛ أي مانعٌ. قال الليثُ :(وَالْوَازعُ فِي الْحَرْب الْمُوَكَّلُ بالصُّفُوفِ يَزَعُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْهُمْ).
ومعنى الآيةِ :﴿ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ أي كان يُحْبَسُ أوَّلُهم على آخرِهم ليتلاَحقُوا، وكانوا يجتمعونَ ويتفرَّقون ويقومون في مسِيرِهم على مراتِبهم. وَالإيْزَاعُ هو المنعُ من الذهاب، والوَازعُ هو القَيِّمُ بأَمْرِ الْجَيْشِ، ومن ذلكَ قولُ الحسنِ :(لاَ بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ وَزْعَةٍ) أي مِن سُلْطَانٍ يَكُفُّهُمْ، ويقالُ : لا بدَّ للسُّلطانِ من وَزْعَةٍ ؛ أي مَن يَمْنَعُ الناسَ عنهُ. وأصلُ الوَزْعِ الكَفُّ والْمَنْعُ، ومنهُ الحديثُ :" إنَّ اللهَ لَيَزَعُ بالسُّلْطَانِ أكْثَرَ مِمَّا يَزَعُ بالْقُرْآنِ ".