قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ ﴾ أي مَالَتْ عن كلِّ شيء، فلم تَنْظُرْ إلاَّ إلى عدُوِّها مُقبلاً مِن كلِّ جانب، ﴿ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ﴾، وَالْحَنْجَرَةُ جَوْفُ الْحَلْقِ. قال قتادةُ :(شَخَصَتِ الْقُلُوبُ مِنْ مَكَانِهَا، فَلَوْلاَ أنَّهُ ضَاقَ الْحُلْقُومُ عَنْهَا أنْ تَخْرُجَ لَخَرَجَتْ).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا ﴾[الأحزاب : ٩] يعني الملائكةَ، بَعَثَ اللهُ ملائكةً على المشركين فقَلَعَتْ أوتادَ الخيلِ وأطْنَابَ الْفَسَاطِيْطِ، وأطفأَتِ النيرانَ وجالَتِ الخيلُ بعضُها في بعضٍ، وكَثُرَ تكبيرُ الملائكةِ في جوانب عسكَرِهم حتى وقعَ بهم الرعبُ فانْهَزَمُوا من غيرِ قتالٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ﴾، أي مِن فوق الوادِي مِن قِبَلِ المشرقِ عليهم مالكُ بن عوفٍ البَصْرِيّ، وعُيَينَةُ بن حِصْنِ الفزَّاري في ألْفٍ مِنْ غَطَفَانَ، ﴿ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ﴾، يعني مِن قِبَلِ المغرب فيهم أبُو سفيانَ في قُريشٍ ومَن تَبعَهُ، وأبو الأعْوَر السُّلمي من قِبَلِ الخندقِ.
وكانَ مِن حديثِ الخندقِ :" أنَّ نَفَراً مِنَ الْيَهُودِ مِنْهُمْ حَييُّ بْنُ أخْطَبَ وَكِنَانَةُ بْنُ الرَّبْيعِ وَهَوْذةُ بْنِ قَيْسٍ وَأبُو عُمَارَةَ الْوَائِلِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي النَّضِيْرِ خَرَجُواْ حَتَّى قَدِمُواْ عَلَى قُرَيْشِ فَدَعَوْهُمْ إلَى حَرْبِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَأَجَابُوهُمْ فَاجْتَمَعُواْ مَعَ قُرَيْشٍ. فَسَارَتْ وَقَائِدُهَا عُيَيْنَةُ بْنُ حُصَيْنٍ الْفَزَّاريُّ، وَسَارَتْ بَنُو مُرَّةً وَقَائِدُهَا الْحَارثُ بْنُ عَوْفٍ، وَسَارَتْ بَنُو أشْجَعَ وَقَائِدُهَا مُسْعِرُ بْنُ رَخَيْلَةَ الأَشْجَعِيُّ، وَسَارَتْ قُرَيْشُ وَقَائِدُهَا أبُو سُفْيَانَ.
فَلَمَّا سَمِعَ بهِمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ ضَرَبَ الْخَنْدَقَ عَلَى الْمَدِيْنَةِ، وَكَانَ الَّذِي أشَارَ بالْخَنْدَقِ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ سَلْمَانُ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّا كُنَّا بفَارسَ إذا حُوصِرْنَا خَنْدَقْنَا. فَحَفَرَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَالْمُسْلِمُونَ حَتَّى أحْكَمُوهُ.
فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ حَفْرِ الْخَنْدَقِ، أقْبَلَتْ قُرَيْشُ حَتَّى نَزَلَتْ بمَجْمَعِ الأَسْيَالِ مِن رُومَة، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَالْمُسْلِمُونَ وَهُمْ ثَلاَثَةُ آلاَفٍ مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ، فَكَانَ الْخَنْدَقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِيْنَ، وَعَظُمَ عِنْدَ ذلِكَ الْبَلاَءُ وَاشْتَدَّ الْخَوْفُ، وَأتَاهُمُ الْعَدُوُّ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ أسْفَلَ مِنْهُمْ، حَتَّى ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ كُلَّ ظَنٍّ، وَظَهَرَ النِّفَاقُ فِي الْمُنَافِقِيْنَ، حَتَّى قَالَ مُعْتَبُ بْنُ بَشِيْرِ الْمُنَافِقُ : كَانَ مُحَمَّدُ وَعَدَنَا أنْ نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، فَأَحَدُنَا لاَ يَقْدِرُ أنْ يَذْهَبَ إلَى الْغَائِطِ، مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إلاَّ غُرُوراً. فذلك قوله تعالى :﴿ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ ﴾.
فَأَقَامَ النَّبيُّ ﷺ وَأقَامَ الْكُفَّارُ مَعَهُ بضْعاً وَعِشْرِيْنَ لَيْلَةً قَرِيْباً مِنْ شَهْرٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقَوْمِ إلاَّ الرَّمْيَ بالنَّبْلِ وَالْحَصَى وَالْحِصَار.
فَلَمَّا اشْتَدَّ الْبَلاَءُ عَلَى النَّاسِ وَاسْتَطَالَ، بَعَثَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حُصَيْنِ وَإلَى الْحَارثِ بْنِ عَوْفٍ وَهُمَا قَائِدَا غَطَفَانَ، وَأعْطَاهُمَا ثُلْثَ ثِمَار الْمَدِيْنَةِ عَلَى أنْ يَرْجِعَا بمَنْ مَعَهُمَا مِنَ الْقَوْمِ، فَجَرَى بَيْنَهُمَا الصُّلْحُ حَتَّى وَقَعَ الْكِتَابُ وَلَمْ تَقَعِ الشَّهَادَةُ، فَذكَرَ ذلِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَاسْتَشَارَهُمَا فِي ذلِكَ، فَقَالاَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ أهَذا شَيْءٌ أمَرَكَ اللهُ بهِ أمْ أمْرٌ تُحِبُّهُ أنْتَ أمْ أمْرٌ تَصْنَعُهُ لَنَا ؟ فَإنْ كَانَ أمْراً مِنَ اللهِ لَكَ فَلاَ بُدَّ لَنَا مِنَ الْعَمَلِ بهِ، وَإنْ كَانَ أمْراً تُحِبُّهُ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ، وَإنْ كَانَ شَيْئاً تَصْنَعُهُ لَنَا فَعَرِّفْنَا بهِ، فَقَالَ صلى الله الله عليه وسلم :" بَلْ وَاللهِ مَا صَنَعْتُ ذلِكَ إلاَّ أنِّي رَأيْتُ الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ بقَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَكَالَبُوكُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَأَرَدْتُ أنْ أكْسِرَ عَنْكُمْ شَوْكَتَهُمْ ".
فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ : يَا رَسُولَ اللهِ ﷺ ؛ لَقَدْ كُنَّا نَحْنُ وَهَؤُلاَءِ الْْقَوْمِ عَلَى الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الأَوْثَانِ لاَ نَعْبُدُ اللهَ وَلاَ نَعْرِفُهُ، وَهُمْ لاَ يَطْمَعُونَ أنْ يَأْكُلُوا مِنْ ثِمَارنَا تَمْرَةً إلاَّ قِرَاءً أوْ شِرَاءً، فَكَيْفَ وَقَدْ أكْرَمَنَا اللهُ بالإسْلاَمِ وَأعْزَّنَا بكَ نُعْطِيْهِمْ أمْوَالَنَا! مَا لَنَا بهَذا مِنْ حَاجَةٍ، وَاللهِ لاَ نُعْطِيْهِمْ إلاَّ السَّيْفَ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فقال ﷺ :" فَأَنْتَ وَذاكَ ". فَتَنَاوَلَ سَعْدٌ الصَّحِيْفَةَ الَّتِي كَتَبُواْ فِيْهَا صُلْحَهُمْ فَمَحَاهَا.
ثُمَّ إنَّهُمْ تَرَامَواْ بالنَّبْلِ، فَوَقَعَتْ رَمْيَةٌ فِي أكْحَلِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَقَطَعَتْهُ، رَمَاهُ ابْنُ الْغُرْفَةِ مِنْ قُرَيْشٍ، فَمَا زَالَ أكْحَلُهُ يَسِيْلُ دَماً حَتَّى خِيْفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ سَعْدٌ : اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ أبْقَيْتَ مِنْ حَرْب قُرَيْشٍ فَأَبْقِنِي لَهَا، فَإنَّهُ لاَ شَيْءَ أحَبُّ إلَيَّ مِنْ جِهَادِ قَوْمٍ آذواْ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَكَذبُوهُ وَأخْرَجُوهُ، وَإنْ كُنْتَ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَاجْعَلْهُ لَنَا شَهَادَةً وَلاَ تُمِتْنِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ.
ثُمَّ أتَى نَعِيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الْغَطَفَانِيُّ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ قَدْ أسْلَمْتُ وَإنَّ قَوْمِي مِنْ غَطَفَانَ لَمْ يَعْلَمُواْ بإسْلاَمِي، فَمُرْنِي فِيْهِمْ بمَا شِئْتَ، فَقَالَ عليه السلام :" إنَّمَا أنْتَ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَخَذِّلْ عَنَّا إنِ اسْتَطَعْتَ ". فَخَرَجَ نَعِيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى أتَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَكَانَ لَهُمْ نَدِيْماً فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ لَهُمْ : يَا بَنِي قُرَيْظَةَ ؛ لَقَدْ عَلِِمْتُمْ وُدِّي لَكُمْ وَمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ المَحَبَّةِ. قَالُواْ : صَدَقْتَ ؛ لَسْتَ عِنْدَنَا بمُتَّهَمٍ ".