قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ ﴾ ؛ ولو ترَى يا مُحَمَّدُ الكفَّار، يعنِي عندَ البعثِ، فلا يُمكِنُهم الغَوْثُ ولا الْهَرَبُ مِن ما هو نازلٌ بهم، لرأيتَ ما يُعْتَبَرُ به غايةَ الاعتبار. ومعنى الآيةِ :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُواْ ﴾ عند البعثِ فلا يَفُوتُونَنِي ؛ أي لاَ يَفُوتُنِي أحدٌ ولا ينجُوا منِّي ظالِمٌ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ﴾ ؛ يعنِي من القُبُور حيثُ كانوا، فَهُمْ مِن اللهِ قريبٌ لا يبعُدونَ عنه ولا يَفُوتُونَهُ. تعني هذه الآيةِ ؛ قال بعضُهم : أرادَ بقولهِ ﴿ إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ ﴾ مما أصَابَهم يومَ بدرٍ عند القتالِ. وقال بعضُهم : أرادَ به يومَ القيامةِ إذ فَزِعُوا مِن مُشاهدَةِ عذاب جهنَّم، وعلِمُوا أنَّهم لا يفُوتُونَ للهَ، وأُخِذُوا بالعذاب مِن مكانٍ قريبٍ إلى جهنَّم فقُذِفُوا فيها.
﴿ وَقَالُواْ ﴾، عندَ رُؤيَةِ العذاب :﴿ آمَنَّا بِهِ ﴾، أي آمَنَّا باللهِ تعالَى وبرسُولهِ، يقولُ اللهُ تعالى :﴿ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ ؛ أي أينَ لَهم تَنَاوُلُ ما أرادُوا بُلُوغَهُ مِن مكانٍ بعيد، يعني مِن الآخرةِ وقد تركوهُ في الدُّنيا ؟ يعني أنَّهم قد تَعَذرَ عليهم تناولُ الإيْمانِ كما يتعذرُ على الإنسانِ تناوُلُ النُّجومِ.
والتَّنَاوُشُ هو التَّنَاوُلُ، نِشْتُهُ أنُوشُهُ نَوْشاً، إذا تَنَاوَلَهُ، كأنَّهُ قالَ : وأنَّى لَهُمُ التوبةُ. وَقِيْلَ : ما يتَمَنَّوْنَ. قال ابنُ عبَّاس :(يَتَمَنَّوْنَ الرَّدَّ حِيْنَ لاَ رَدَّ).
قرأ أبُو عمرٍو والأعمشُ وحمزة والكسائيُّ وخلف :(التَّنَاؤُشُ) بالمدِّ والهمزةِ، وهو الإبطاءُ والبُعْدُ ؛ أي مِن أينَ لَهم أن يتحرَّكُوا فيما لا حيلةَ لَهم فيهِ. يقالُ : أنَشْتُ الشَّيءَ ؛ إذا أخذتهُ مِن بعيدٍ، والنَّيْشُ : الشيءُ البطيءُ. وقرأ الباقونَ بغيرِ همزةٍ من التَّناوُلِ، يقالُ : نِشْتُهُ إذا تناوَلتهُ، وَتَنَاوَشَ القومُ في الحرب إذا تدَانَوا وتناولَ بعضُهم بعضاً.
واختارَ أبو عُبيد تركَ الهمزِ ؛ لأنه قالَ :(مَعْنَاهُ مِنَ التَّنَاوُلِ، فَإذا هُمِزَ كَانَ مَعْنَاهُ الْبُعْدُ فكيف يقول :﴿ وَأَنَّى لَهُمُ ﴾ البُعْدُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيْدٍ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ يعني أنَّهم يريدونَ أنْ يتناوَلُوا التوبةَ، وقد صَارُوا في الآخرةِ، وإنَّما تُقْبَلُ التوبةُ " في الدنيا " وقد ذهبَتِ الدُّنيا فصارت بعيداً مِن الآخرةِ.


الصفحة التالية
Icon