قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ﴾ ؛ قال مقاتلُ :(يَعْنِي الْقُرْآنَ)، وقوله تعالى :﴿ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ﴾ يريد أُمَّة مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
ثم قسَّمَهم ورتَّبَهم فقالَ تعالى :﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ﴾ ؛ وهو الذي ماتَ على كِبْرِه ولم يَتُبْ عنها، ﴿ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ ﴾ ؛ وهو الذي لَمْ يُصِبْ كبيرةً، ﴿ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ﴾ ؛ يعني المقرَّبين الذين سبَقُوا إلى أعمالٍ، وقال الحسنُ :(الظَّالِمُ : الَّذِي تَرَجَّحَ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ، وَالْمُقْتَصِدُ : الَّذِي اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ سَيِّئَاتُهُ، وَالسَّابقُ : مَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ).
وعن عُمر بن الخطَّاب رضي الله عنه قالَ :" سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ :" سَابقُنا سَابقٌ " أي إلى الجنَّة أو إلى رحمةِ الله تعالى بالخيراتِ ؛ أي بالأعمال الصالحة، ﴿ بِإِذُنِ اللَّهِ ﴾ ؛ أي بإرادةِ الله، ﴿ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾ ؛ معناهُ : إيراثُهم الكتابَ هو الفضلُ الكبير، وسُمي إعطاءُ الكتاب إيْرَاثاً لأنَّهم أُعْطُوهُ بغيرِ مسألةٍ ولا اكتساب.
وعن رسولِ اللهِ ﷺ أنَّهُمْ قَالُواْ :" السَّابقُونَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بغَيْرِ حِسَابٍ، وَالْمُقْتَصِدُونَ يُحَاسَبُونَ حِسَاباً يَسِيراً ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَالظَّالِمُونَ يُحَاسَبُو مَا شَاءَ اللهُ أنْ يُحَاسَبُواْ، ثُمَّ يَرْحَمُهُمُ اللهُ تَعَالَى فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ : الْحَمْدُ للهِ الَّّذِي أذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ... " إلى آخرِ الآيتَين.
وعن الحسنِ أنه قالَ :(السَّابقُ الَّذِي تَرَكَ الدُّنْيَا، وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي أخَذ الْحَلاَلَ، وَالظَّالِمُ الَّذِي لاَ يُبَالِي مِنْ أيْنَ أخَذ). ويقالُ : الظالِمُ صاحبُ الكبائرِ، والمقتصدُ صاحبُ الصَّغائرِ، والسَّابقُ الذي اتقى سيئاته.
فإنْ قيلَ ما الحكمةُ في تقديمِ الظالِم وتأخيرِ السابق ؟ قِيْلَ : الواوُ لا توجِبُ الترتيبَ كما قالَ تعالى﴿ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ ﴾[التغابن : ٢]. وَقِيْلَ : قدَّمَ الظالِمَ لئَلاَّ ييأسَ من رحمتهِ، وأخَّرَ السابقَ لئَلا يُعجَبَ بنفسهِ. وَقِيْلَ : قدَّمَ الظالِمَ فإذا لَم يكن له شيءٌ يتَّكِلُ عليه إلاَّ رحمةُ الله تعالى، وثَنَّى بالمقتصدِ لِحُسنِ ظنِّهِ بربه. وَقِيْلَ : لأنه بين الخوفِ والرَّجاءِ، وأخَّرَ السابقَ لأنه اتَّكَلَ على حسَناتهِ. وَقِيْلَ : لئلا يأمَنَ أحدٌ مَكْرَهُ، وكلُّهم في الجنَّة بُحرَمِة كلمةِ الإخلاصِ.
وعن عُقبة بن صَهبان قال :(سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِهِ :﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ﴾ فَقَالَتْ : يَا بُنَيَّ كُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَأمَّا السَّابقُ فَمَنْ مَضَى عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ شَهِدَ لَهُ النَّبيُّ ﷺ بالْجَنَّةِ، وَأمَّا الْمُقْتَصِدُ فَمَنْ تَبعَ أثَرَهُ مِنْ أصْحَابهِ حَتَّى لَحِقَ بهِ، وَأمَّا الظَّالِمُ فَمِثْلِي وَمِثْلَكَ). وقال سهلُ بن عبدِالله :(السَّابقُ الْعَالِمُ، وَالْمُقْتَصِدُ الْمُتَعَلِّمُ، وَالظَّالِمُ الْجَاهِلُ).
وَقِيْلَ : السابقُ الذي اشتغلَ بمَعادهِ، والمقتصدُ بمعَادهِ ومعاشهِ، والظالِمُ الذي اشتغلَ بمعاشهِ عن معادهِ. وَقِيْلَ : الظالِمُ طالِبُ الدُّنيا، والمقتصدُ طالبُُ العُقبَى، والسابقُ طالب المولَى. وَقِيْلَ : الظالِمُ الْمُرائِي في جميعِ أفعالهِ، والمقتصدُ المرائِي في بعضِ أفعالهِ دون بعضٍ، والسابقُ المخلِصُ في أفعالهِ كلِّها.