وقولهُ تعالى :﴿ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً ﴾ ؛ أي في أعناقِهم وأيمانِهم أغْلاَلاً، ولَم يذكُرِ الأَيمانَ في الآيةِ لأنَّ الكلامَ دليلٌ عليهِ ؛ لأن الغُلَّةَ لا يكون في العنُقِ دون اليدِ، ولا في اليدِ دون العنُقِ، وإنما تُغَلُّ الأيدي إلَى الأعناقِ. وقولهُ تعالى :﴿ فَهِىَ إِلَى الأَذْقَانِ ﴾ ؛ كنايةٌ عن الأيدِي دون الأغلالِ، وقولهُ تعالى :﴿ فَهُم مُّقْمَحُونَ ﴾ ؛ أي رَافِعُوا رؤوسِهم، والْمُقْمَحُ : الرافعُ رأسَهُ الغاضُّ بصرَهُ.
واختلَفُوا فيمَنْ نزلت هذه الآيةُ، فرُوي عن ابنِ عبَّاس :(أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْكُفَّارِ فِيْهِمْ أبُو جَهْلٍ، تَوَاطَؤُا عَلَى أنْ يَقْتُلُواْ النَّبيَّ ﷺ إذا رَأوْهُ يُصَلِّي، وَحَلَفَ أبُو جَهْلٍ أنَّهُ إذا رَآهُ يُصَلِّي لَيَدْمَغَنَّهُ بالْحَجَرِ، فَأَتَوْهُ يَوْماً وَهُوَ يُصَلِّي، فَجَاءَهُ أبُو جَهْلٍ وَمَعَهُ الْحَجَرُ، فَرَفَعَ الْحَجَرَ لِيَدْمَغَنَّ بهِ النَّبيَّ ﷺ فَيَبسَتْ يَدُهُ إلَى عُنُقِهِ وَالْتَزَقَ الْحَجَرُ إلَى يَدِهِ، فَلَمَّا رَجَعَ إلَى أصْحَابهِ خَلَّصُواْ الْحَجَرَ، فَأَخْبَرَهُمْ بأَمْرِ الْحَجَرِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي مُغِيرَةَ : أنَا أقْتُلُهُ! وَأخَذ الْحَجَرَ وَدَنَا مِنَ النَّبيِّ ﷺ، فَطَمَسَ اللهُ عَلَى بَصَرِهِ فَلَمْ يَرَ النَّبيَّ ﷺ وَكَانَ يَسْمَعُ قِرَاءَتَهُ).
فَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾ ؛ أي جعَلنا من بين أيدِيهم غطاءً وسَدّاً ومِن خلفِهم كذلكَ فأَغْشَينا أبصارَهم حتى لم يَرَوا.
قال الفرَّاءُ :(مَعْنَى أغْشَيْنَا : ألْبَسْنَا أبْصَارَهُمْ غِشْوَةً أيْ عَمًى)، وعن ابنِ خُثَيم قالَ :(سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقْرَأُ (فَأَعْشَيْنَاهُمْ) بالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ)، ورُوي ذلك عن ابنِ عبَّاس أيضاً، وقال الحسنُ :(هَذَا عَلَى طَرِيقِ الْمَثَلِ) وَذلِكَ أنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ أرَادُواْ مِنَ النَّبيِّ ﷺ كَانُوا كَمَنْ غُلَّتْ يَدُهُ إلَى عُنُقِهِ لاَ يُمْكِنُهُ أنْ يَبْسُطَهَا إلَى شَيْءٍ، وَهُوَ طَافِحٌ رَأسُهُ لاَ يُبْصِرُ مَوْضِعَ قَدَمِهِ، قَدْ سُدَّ عَلَيْهِ طَرِيقُهُ فِي الذهَاب وَالرُّجُوعِ.


الصفحة التالية
Icon