قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ﴾ ؛ معناهُ : واذكُرْ يا مُحَمَّد عبْدَنا أيُّوب إذ نادَى رَبَّهُ في البلاءِ فقالَ : يا رَب إنِّي أصابَني الشيطانُ بنُصْبٍ ؛ أي بتَعَبٍ في بدَنِي وعذابٍ في أهلي ومالِي. والنُّصْبُ والنَّصْبُ بمعنى واحدٍ، مثل الرَّشَدِ والرُّشْدِ والْحَزَنِ وَالْحُزْنِ.
قرأ أبو جعفرٍ (بنُصُبٍ) بضمَّتين، وقرأ يعقوبُ (بنَصَبٍ) بفتحِ النون والصاد، وقرأ هُبَيْرَةُ عن حفصٍ وعاصم (بنَصْبٍ) بفتح النونِ وجزم الصاد، وقرأ الباقون بـ (النُّصْب) بضمِّ النون وسُكون الصاد، وكلُّ ذلك لغاتٌ فيه.
قال قتادة :(مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ﴾ النُّصْبُ الضُّّرُّ فِي الْجَسَدِ، وَالْعَذابُ فِي الْمَالِ). قال السديُّ :(النُّصْبُ أنْصَبَ الْجَسَدَ، وَالْعَذابُ أهْلَكَ الْمَالَ).
ثُم فرَّجَ اللهُ عنه، واختلفوا في سبب بَلاء أيُّوب، قال الحسنُ رضي الله عنه :(إنَّ ابليسَ قالَ : يا رب هل مِن عبيدك مَن إنْ سلَّطَتنِي عليه يمتنعُ عليَّ ؟ قال : نَعَمْ ؛ عبدِي أيُّوبُ، فجعلَ يأتيهِ الشيطانُ بوِسَاوسِهِ وحبائلهِ فلا يقدرُ منه على شيءٍ. قال : يا رب إنه قدِ امتنعَ عليَّ فسَلِّطْنِي على مالهِ، فجعلَ يأتيهِ فيقولُ : يا أيوبُ هَلَكَ مِن مالِكَ كذا وكذا، فيقولُ أيوب : اللَّهُمَّ أنتَ قد أعْطَيْتَنِيَهُ وأنتَ قد أخذتَهُ، اللَّهُمَّ لكَ الحمدُ على ما منَعْتَ، ولكَ الحمدُ على ما أبقيتَ، فمكثَ كذلك حتى هَلَكَ مالهُ كلُّه.
فقال إبليسُ : يا رب إنَّهُ لا يُبالِي بمالهِ فسَلِّطْنِي على جسدهِ، فأنَّكَ لو سلَّطَتَني على جسدهِ لم تجدْهُ شَاكراً، فسَلَّطَهُ عليه فنفخَ في أنفهِ فانتفخَ وجههُ وسَرَى ذلك إلى جسدهِ، فوقعَ فيه الديدانُ.
إلاَّ أنَّ هَذا الْقَوْلَ لاَ يَصِحُّ وَلاَ وَجْهَ لقَبُولِهِ، وَلاَ يَجُوزُ أنْ يُسَلِّطَ اللهُ إبْلِيسَ عَلَى نَبيٍّ مِنْ أنْبِيَائِهِ فَيَفْعَلُ بهِ مَا أحَبَّ.
ويقالُ : سببُ ابتلائهِ أنَّ إنسَاناً استغاثَ بهِ في ظُلمٍ يدرَؤهُ عنه، فصبرَ لوردهِ حتى فاتَهُ فابتُلِيَ. فلَمَّا مكثَ أيوبُ في البلاءِ ما مكثَ، قاربَتِ امرأتهُ الشيطانَ في بعضِ الأُمور، قِيْلَ : إنَّ الشيطانَ قال لها : لئِنْ أكلَ أيُّوبُ طَعاماً لم يذْكُرِ اسمَ الله عليه عُوفِيَ. ويقالُ : إنَّها قالت لأَيُّوبَ : لو تَقرَّبْتَ إلى الشيطانِ فذبحتَ له عِنَاقاً، فقالَ : لا واللهِ، ولاَ كَفّاً من تُرابٍ. وحلفَ ليَجْلِدَنَّهَا إنْ عُوفِيَ مائةَ جلدةٍ. وَقِيْلَ : إن إبليسَ قالَ لها : إنْ شَفَيْتُهُ تقولِين لِي شفيتَهُ، فأخبرَتْ بذلك أيوبَ فحلفَ.
فلما طالَ البلاءُ على أيُّوب، وبلغَ به غايةَ الجدِّ سألَ الله تعالى أنْ يكشِفَ ضُرَّهُ، فقيلَ له :﴿ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ اذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ﴾ ؛ أي اضرِبْ بها الأرضَ، فرَكَضَ برجلهِ الأرضَ فنَبَعَتْ عَينُ ماءٍ فاغتسلَ منها فذهبَ الداءُ من ظاهرهِ، فضربَ برجلهِ الأرض مرَّةً أُخرى فنبعَ ماءٌ وشرِبَ منه، فذهبَ الداءُ من باطنِ جسده. والرَّكْضُ : هو الدفعُ بالرِّجلِ على جهة الإسراعِ، ومنه ركضُ الفرس لاسراعهِ، والْمُغْتَسَلُ موضعُ الاغتسالِ.