قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ﴾، معناهُ : الذين إذا أصابَهم البغيُ والظُّلم والعدوان هم ينتَصِرون مِمَّن ظلَمَهم، قال عطاءُ :(يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ الَّّذِينَ أخْرَجَهُمُ الْكُفَّارُ مِنْ مَكَّةَ وَبَغُواْ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ مَكَّنَهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي الأَرْضِ حَتَّى انْتَصَرُواْ مِمَّنْ ظَلَمَهُمْ).
قال ابنُ زيد :(جَعَلَ اللهُ الْمُوْمِنِينَ صِنْفَيْنِ : صِنْفٌ يَعْفُونَ عَمَّنْ ظَلَمَهُمْ، فَبَدَأ بذِكْرِهِمْ فَقَالَ :﴿ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾[الشورى : ٣٧]. وَصِنْفٌ يَنْتَصِرُونَ مِمَّنْ ظَلَمَهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ ذُكِرُواْ فِي هَذِهِ الآيَةِ، وَمَنِ انْتَصَرَ فَأَخَذ حَقَّهُ وَلَمْ يُجَاوزْ فِي ذلِكَ مَا حَدَّ اللهُ فَهُوَ مُطِيعٌ للهِ، وَمَنْ أطَاعَ اللهَ فَهُوَ مَحْمُودٌ).
ثم اعْلَمْ : أن أوَّلَ هذه الآيةِ يقتضي أنَّ الاقتصارَ بأخذِ الواجب من القصاصِ أو نحوه أفضلُ ؛ لأن اللهَ تعالى عطفَ هذه الآيةَ على الآيةِ التي ذكرَ فيها الاستجابةَ للهِ تعالى وإقامِ الصَّلاة.
وتكلَّمُوا في معنى ذلك، قالَ بعضُهم : أرادَ به الانتصارَ مِمَّن فارَقَهم في دِينهم، فأما مِن المسلمين فالانتصارُ مباحٌ، كما قال﴿ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَـائِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ ﴾[الشورى : ٤١] والعفوُ أفضل، كما قالَ تعالى﴿ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾[البقرة : ٢٣٧]، وقال تعالى :﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾[الشورى : ٤٠].
وقال بعضُهم : إذا كان العفوُ يؤدِّي إلى الإخلالِ بشيءٍ من حُقوقِ الله مثل العفوِ عن الفاسقِ الذي لا يرتدعُ، والعفوِ عن الباغِي الذي لا يكون مُصِرّاً على قصدهِ، فالانتصارُ أولى من العفوِ، وإذا كان العفوُ لا يؤدِّي إلى إسقاطِ شيءٍ من حُقوقِ الله تعالى فالعفوُ أفضَلُ كما قالَ تعالى في آيةِ القصاص﴿ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ﴾[المائدة : ٤٥]. وفي بعضِ التَّفاسيرِ : إنما جُعِلَ الانتصارُ في أوَّلِ هذه الآياتِ أفضلَ لأنَّهم كانوا يَكرَهُونَ أن يُذلِّلُوا أنفُسَهم فَيَجْتَرِئُ عليهم الفُسَّاق.