وقولهُ تعالى :﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ ؛ وهم خمسةٌ أُولُوا الكتب والشرائع : مُحَمَّدٌ ﷺ ونوح وإبراهيم وموسَى وعيسى صَلواتُ اللهِ عليهم، وَقِيْلَ : إنَّهم رسلٌ سُلِخُوا من جلودِهم فلم يجزَعُوا.
وَقِيْلَ : أرادَ بأُولِي العزمِ الأنبياءُ كلَّهم، وحرف (مِنْ) على هذا القولِ لِتَبيين الجنسِ كما في قوله﴿ فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ ﴾[الحج : ٣٠]، قال ابنُ يزيد :(كُلُّ الرُّسُلِ كَانُوا أُوْلِي عَزْمٍ).
وقال بعضُهم : كلُّ الأنبياءِ أُولُوا عزمٍ إلاَّ يونسَ عليه السلام، ألاَ ترَى أنَّ نبيَّنا ﷺ نُهي عن أنْ يكون مثلَهُ لخِفَّة وعجلةٍ ظهرت منهُ حين ولَّى مُغَاضِباً لقومهِ، فابتلاهُ الله بالحوتِ فابتلعَهُ، وَقِيْلَ : أُولُوا العزمِ نُجبَاءُ الرُّسلِ المذكورون في سُورةِ الأنعامِ وهم ثمانيةُ عشر، قَالَ اللهُ تَعَالَى فيهم﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾[الأنعام : ٩٠].
وقال مقاتلُ :(أُوْلُوا الْعَزْمِ سِتَّةٌ : نُوحٌ صَبَرَ عَلَى أذى قَوْمِهِ وَكَانُواْ يَضْرِبُونَهُ حَتَّى يُغْشَى عَلَيْهِ، وَإبْرَاهِيمُ صَبَرَ عَلَى النَّار، وَإسْحَاقُ صَبَرَ عَلَى الذبْحِ، وَيَعْقُوبُ صَبَرَ عَلَى فَقْدِ وَلَدِهِ وَذهَاب بَصَرِهِ، وَيُوسُفُ صَبَرَ عَلَى الْبئْرِ وَالسِّجْنِ، وأيُّوبَ صَبَرَ عَلَى الضُّرِّ). قال ابنُ عبَّاس :(الْعَزْمُ : الصَّبْرُ)، وقال القَرَظِيُّ : الرَّأيُ وَالصَّوَابُ).
وقال الحسنُ :(أُوْلُوا الْعَزْمِ أرْبَعَةٌ : إبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَدَاوُدَ وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ، أمَّا إبْرَاهِيمُ فَعَزْمُهُ أنَّهُ قِيلَ لَهُ : أسْلِمْ، َفَقَالَ أسْلَمْتُ لِرَب الْعَالَمِينَ، وَابْتُلِيَ فِي وَلَدِهِ وََمَالِهِ وَنَفْسِهِ، فَوُجِدَ صَادِقاً وَافِياً فِي جَمِيعِ مَا ابْتُلِيَ بهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾[البقرة : ١٢٤]، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾[النجم : ٣٧]، وَأمَّا مُوسَى فَعَزْمُهُ أنَّ قَوْمَهُ كُلَّمَا قَالُوا لَهُ : إنَّا لَمُدْرَكُونَ، قَالَ : كَلاَّ إنَّ مَعِي رَبي سَيَهْدِينِ. وَأمَّا دَاوُد عليه السلام فَعَزْمُهُ أنَّهُ أخْطَأَ خطِيئَةً فَبَكَى عَلَيْهَا أرْبَعِينَ سَنَةً. وَأمَّا عِيسَى فَعَزْمُهُ أنْ لَمْ يَضَعْ لَبنَةً عَلَى لَبنَةٍ زُهْداً فِي الدُّنْيَا).
فكأنَّ اللهَ تعالى قال لنَبيِّه ﷺ : فاصبرْ كما صبرَ أُولُوا العزمِ من الرُّسلِ ؛ أي كن صَادقاً فيما ابتُلِيت به مثلَ صدقِ إبراهيمَ عليه السلام، وكُن واثقاً بنصرِ مَولاَكَ مثلَ ثقةِ مُوسَى عليه السلام مُهتَمّاً بما سلفَ من هفَوَاتِكَ مثل اهتمامِ داودَ عليه السلام، زاهداً في الدُّنيا مثلَ زُهدِ عيسى عليه السلام، فقالَ الشاعرُ : أُوْلُواْ الْعَزْمِ نُوحٌ وَالْخَلِيلُ كِلاَهُمَا مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبيُّ مُحَمَّدُفلمَّا نزلت هذه الآيةُ قال النبيُّ ﷺ :" واللهِ لأَصْبرَنَّ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وَأجْهَدُ كَمَا جَهِدُوا، ولاَ قُوَّةٍ إلاّ بالله ".
وقولهُ تعالى :﴿ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ﴾ ؛ وذلك أنَّ النبيَّ ﷺ ضَجِرَ بعضَ الضَّجرِ من كُفرِهم، وأحبَّ أن ينْزِلَ العذابُ بمَن أبَى منهم الإسلامَ، فأُمِرَ بالصَّبرِ وتركِ الاستعجالِ، ثم أخبرَ أنَّ العذابَ منهم قريبٌ، فقوله :﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ ﴾ ؛ من العذاب في الآخرة ؛ ﴿ لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ ﴾ ؛ أي إذا عايَنُوا العذابَ صارَ طولُ لُبثِهم في الدُّنيا والقبور كأنَّهُ ساعةٌ، لأنَّ ما مضَى كأنَّهُ لم يكن وإنْ كان طَويلاً.
وتَمَّ الكلامُ، ثم قال تعالى :﴿ بَلاَغٌ ﴾ ؛ أي هذا القرآنُ وما فيه من البيانِ بلاغٌ عن الله إليك، والبلاغُ بمعنى التبليغِ بلَّغَكم مُحَمَّدٌ ﷺ عن اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ ؛ أي لا يقعُ العذاب إلاَّ بالعاصِين الخارجين عن أمرِ الله تعالى، وَقِيْلَ : معناهُ : ما يهلكُ إلاَّ مشركٌ أو منافقٌ.


الصفحة التالية
Icon