وقولهُ تعالى :﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرِّقَابِ ﴾ ؛ أي إذا لَقِيتمُوهم في القتالِ فاضْرِبُوا رقابَهم ؛ أي اقتلُوهم، والمعنى : فاضرِبُوا الرقابَ ضَرباً، وهذا مصدرٌ أُقِيمَ مقامَ الأمرِ، كما في قولهِ﴿ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ﴾[البقرة : ٩٢]، وَقِيْلَ : انتصبَ قولهُ ﴿ فَضَرْبَ ﴾ على الإغراءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ حَتَّى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ ﴾ ؛ أي حتى إذا أكثَرتُم القتلَ فيه وغلَبتُموهم وبالَغْتُم في قتلِهم فاستوثَقُوهم بالأسرِ، ولا يكون الأسرُ إلاَّ بعد المبالَغةِ في القتلِ، كما قال اللهُ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ﴾[الأنفال : ٦٧]، والمعنَى حتى إذا قَهرتُموهم وغَلبتُموهم وصَاروا أسَارَى في أيدِيكم فشُدُّوا وثاقَهم كَيلاَ يَهربُوا، يقال : أوْثَقَهُ أيْ إيْثَاقاً إذا شدَّ أسْرَهُ لِئَلاَّ يُفْلِتَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ﴾ ؛ معناهُ : فإما أن تَمُنُّوا عليهم بعد أن تَأسِرُوهم وتطلقوهم بغيرِ فداءٍ، وإما تُطلِقُوهم يُفْدَوْنَ بأَسرَاكُم عندَهم أو بمالٍ، والمعنى فإمَّا بعدَ أن تأسِرُوهم إما مَنَنْتُمْ عليهم مَنّاً فأطلقتُموهم بغيرِ عِوَضٍ، وإما أنْ تُفَدُوا فِدَاءً.
وعن ابنِ عبَّاس قال :(هَذِهِ الآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ﴿ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾[التوبة : ٥]). وَإلَيْهِ ذهَبَ أبُو حَنِيفَةَ وقالَ :(لاَ يَجُوزُ الْمَنُّ عَلَى الأَسِيرِ وَلاَ الْفِدَاءُ بالْمَالِ وَلاَ بغَيْرِ الْمَالِ مِنَ الأُسَارَى، وَلاَ يُبَاعُ السَّبْيُ مِنْ أهْلِ الْحَرْب).
ولم يختلف أهلُ التفسيرِ في أنَّ التوبةَ نزلت بعدَ سُورَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، ولا خلافَ بين العلماءِ في جواز قتل الأسيرِ وجواز قِسمَةِ الأُسَارَى بين المسلمِين إذا لم يكن الأُسارَى من العرب، وإنما اختَلَفُوا في جواز الْمَنِّ عليهم في مَفَادَاتِهم بالمالِ أو النفس.
قال الشافعيُّ :(يَجُوزُ المَنُّ عَلَيْهِمْ لأَنَّ النَّبيَّ ﷺ مَنَّ عَلَى أبي عَزَّةَ الشَّاعِرِ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى أنْ لاَ يُقَاتِلَ، فَرَجَعَ إلَى مَكَّةَ ثُمَّ عَادَ بَعْدَ ذلِكَ لِلْقِتَالِ فَأُسِرَ، فَأَمَرَ النَّبيُّ ﷺ بقَتْلِهِ). فأجابَ أصحابُنا عن هذا إنَّما مَنَّ عليه كما مَنَّ العربُ، وكان لا يجوزُ استرقاقهُ، وقال أبو يوسف ومحمَّد :(تَجُوزُ مُفَادَاةُ الأَسِيرِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ﴾ أي حتى يضعَ أهلُ الحرب أسلِحتَهم، والأوْزَارُ في اللغة : الأَثْقَالُ، وَقِيْلَ : المرادُ بالأوزار هنا الآثَامُ، وقال ابنُ عبَّاس :(مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ﴾ أيْ حَتَّى لاَ يَبْقَى أحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). وقال مجاهدُ :(حَتَّى لاَ يَكُونَ دِينٌ إلاَّ الإسْلاَمُ).
وَقِيْلَ : حتى تضعَ حربُكم وقتالُكم أوزارَ المشركين وقبائحَ أعمالِهم بأنْ يُسلِمُوا فلا يبقَى دينٌ غيرُ الإسلامِ، ولا يُعبَدُ وثنٌ. وقال الفرَّاءُ :(مَعْنَاهُ : حَتَّى لاَ يَبْقَى إلاَّ مُسْلِمٌ أوْ مُسَالِمٌ).
وَقِيْلَ : معناهُ : حتى تضعَ أهلُ الحرب آلتَها وعُدَّتَها، وآلَتُهم أسلِحَتُهم فيُمسِكُوا عن الحرب، وحربُ القومِ الْمُحاربُونَ كالرَّكْب والشُّرب، ويقال أيضاً للكِرَاعِ : أوْزَارٌ، قال الشاعرُ وهو الأعشَى :


الصفحة التالية
Icon