قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ﴾ ؛ أي دنَا جبريلُ عليه السلام بعدَ استوائهِ بالأُفق الأَعلى، ﴿ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ﴾ ؛ قال المفسِّرون : وذلك أنَّ جبريلَ كان يأتِي النبيَّ ﷺ في صُورَةِ الآدمِيِّين، فسألَهُ النبيُّ ﷺ أن يُرِيَهُ نفسَهُ على صورتهِ التي خُلق عليها، فأراهُ نفسَهُ مرَّتين، مرَّةً في الأرضِ ومرةً في السَّماءِ.
فأمَّا في الأرضِ ففِي الأُفق الأعلى، يعني أفُقَ المشرقِ، وذلك أنَّ مُحَمَّداً ﷺ كان بحِرَاء فطلَعَ له جبريلُ من المشرقِ فسَدَّ الأُفُقَ إلى المغرب، فخَرَّ النبيُّ ﷺ مَغْشِيّاً عليه، فنَزلَ جبريلُ عليه السلام في صُورةِ الآدميِّين وضَمَّهُ إلى نفسهِ، وهو قولهُ ﴿ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ﴾ أي قَرُبَ بعدَ بُعدهِ وعُلُوِّهِ في الأُفق الأعلى.
والمعنى : نَزَلُ جبريلُ عليه السلام بعدَ استوائهِ، فدَنا إلى رسولِ الله ﷺ وتَدَلَّى اليه بأنْ نَكَّسَ رأسَهُ فرآهُ النبيُّ ﷺ مُتَدَلِّياً كما رآهُ مُنتصباً حتى بينَهُ وبينَ النبيِّ ﷺ قدرَ قاب قَوسَينِ مِن قِسِيِّ العرب أو أدنَى، معناهُ : وأقربُ في رأي العينِ.
قال الزجَّاجُ :(كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ ﷺ مِقْدَارَ قَوْسَيْنِ، وَإنَّمَا خُصَّ الْقَوْصُ فِي الآيَةِ ؛ لأنَّ مِقدَارَهَا فِي الأَغْلَب لاَ يَتَفَاوَتُ بزِيَادَةٍ وَلاَ نُقْصَانٍ). ويقالُ : إنَّ المرادَ بالقوسِ هنا الذراعُ، وسُمي الذراعُ قًوْساً لأنه تُقَاسُ به الأشياءُ، قال ابنُ مسعودٍ :(مَعْنَاهُ : فَكَانَ قَدْرَ ذِرَاعَيْنِ أوْ أدْنَى مِنْ ذِرَاعَيْنِ).
وأما دخول (أوْ) ههُنا في قولهِ :﴿ أَوْ أَدْنَى ﴾ معناهُ : أو أدنَى فيما تقَدِّرون أنتُم واللهُ تعالى عالِمٌ بمقاديرِ الأشياءِ، ولكنَّهُ يُخاطِبُنا على ما جرَتْ به عادةُ المخاطَبة فيما بيننا.
ومعنى قولهِ تعالى :﴿ قَابَ قَوْسَيْنِ ﴾ أي قَدْرَ قَوسَين، يقالُ (قَابَ قَوْسَينِ) وَقِيبَ قَوسَين وقَيْدَ قَوسَين، كلٌّ بمعنىً واحد. والتَّدَلِّي في اللغة : هو الامتدادُ إلى جهةِ الأسفَلِ، ومنه تَدَلَّى القبرُ، ومنه إدلاءُ الدَّلوِ وهو إرسالُها في البئرِ.
ومن الدليلِ على أنَّ المرادَ بشَدِيدِ الْقِوَى جبريل عليه السلام، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ﴾[التكوير : ١٩-٢٠]﴿ وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ ﴾[التكوير : ٢٣] وهو مَطلِعُ الشَّمسِ.