قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ﴾ ؛ هذا مبتدأ وخبرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ ﴾ ؛ أي والَّذين معَهُ من المؤمنينِ أشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّار، غِلاَظٌ عليهم، والأشِدَّاءُ جمعُ الشَّديدِ، وهو قويُّ في دينِ الله تعالى، القويُّ على أعداءِ الله، كانوا لا يَمِيلُونَ إلى الكفَّار لقَرابَةٍ ولا غيرِها، بل أظهَرُوا لهم العداوةَ في الدينِ، وكانوا على الكفَّار كالأَسَدِ على فرسهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ﴾ ؛ أي مُتَوادِدُون فيما بينَهم، مُتعَاطِفُون حتى أنَّهم كانوا بعضَهم لبعضٍ كالوالدِ لولدهِ، والعبدِ لسيِّدهِ، وقولهُ تعالى :﴿ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً ﴾ ؛ أي رَاكعين وساجِدين يُكثرون الصلاةَ للهِ، ﴿ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً ﴾ ؛ يعني الجنَّةَ، ورضَى اللهِ تعالى.
قولهُ :﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ﴾ ؛ أي علامةُ التهَجُّد ظاهرةٌ على وجوهِهم من كَثرَةِ السُّجود بالليلِ، والمعنى يتبيَّن في وُجوهِهم أثرُ السَّهَرِ، قال الضحَّاك :(إذا سَهِرَ أصْبَحَ مُصْفَرّاً) وقال عطيَّةُ :(مَوَاضِعُ السُّجُودِ أشَدُّ بَيَاضاً فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ). وقال مجاهدُ :(يَعْنِي الأَثَرُ : الْخُشُوعُ وَالتَّوَاضُعُ وَالسَّمْتُ الْحَسَنُ). وقال عكرمةُ :(هُوَ التُّرَابُ عَلَى الْجِبَاهِ لأَنَّهُمْ يَسْجُدُونَ عَلَى التُّرَاب لاَ عَلَى الثِّبَاب).
وقال الحسنُ في وصفِهم :(إذا رَأيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ مَرْضَى، وَمَا بالْقَوْمِ مَرَضٌ، وَيَقُولُ : لَعَلَّهُمْ خُولِطُواْ فِي عُقُولِهِمْ، وَاللهِ لَقَدْ خَالَطَهُمْ أمْرٌ عَظِيمٌ). يريدُ بذلك ما في قلوبهم من خوفِ الآخرةِ.
وقال بعضُهم :﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ﴾ هو نورٌ يجعلهُ الله في وجوهِهم يومَ القيامةِ، يُعرَفون بتلك العلامةِ أنَّهم سجَدُوا في الدُّنيا كما قالَ اللهُ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾[آل عمران : ١٠٦]، وقال النبيُّ ﷺ :" تُحْشَرُ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرّاً مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَار الْوُضُوءِ ".
وقال منصورُ :(سَأَلْتُ مُجَاهِدَ عَنْ قَوْلِهِ :﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ﴾ قَالَ : لَيْسَ هُوَ الأَثَرُ الَّذِي يَكُونُ فِي جَبْهَةِ الرَّجُلِ مِثْلَ رُكْبَةِ الْبَعِيرِ، فَقَدْ يَكُونُ ذلِكَ برَجُلٍ هُوَ أقْسَى قَلْباً مِنَ الْحِجَارَةِ، وَلَكِنْ هُوَ نُورٌ فِي وُجُوهِهِمْ مِنَ الْخُشُوعِ). وقال ابن جُريج :(هُوَ الْوَقَارُ)، وقال سَمُرة :(هُوَ الْبَهَاءُ)، وقال سفيانُ :(يُصَلُّونَ باللَّيْلِ، فَإذا أصْبَحُوا عُرِفَ ذلِكَ فِي وُجُوهِهِمْ ؛ بيانهُ قولهُ عليه السلام :" مَنْ كَثُرَتْ صَلاَتُهُ باللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بالنَّهَار " ورُوي في بعضِ الأخبار :" أنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ الْقِِيَامَةِ : يَا نَارُ أنْضِجِي، يَا نَارُ أحْرِقِي وَمَوْضِعَ السُّجُودِ لاَ تقرَبي ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ﴾ ؛ أي ذلك الَّذي ذكرَهُ في القرآنِ مَن وصفَهم هو ما وُصِفوا به في التَّوراةِ، ﴿ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ ﴾ ؛ أيضاً، ثم ذكَرَ اللهُ وَصْفَهم في الإنجيلِ :﴿ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ ﴾ ؛ أي سبيلَهُ، وقال ابنُ زيدٍ :(أوْلاَدَهُ). والشَّطْأُ : فِرَاخُ الزَّرعِ، يقالُ : الشَّطْأُ الزَّرْعُ أنْ يُخْرِجَ سَبْعاً أو ثَمَانياً أو عَشْراً، وهذا مثَلٌ ضربَهُ اللهُ لأصحاب النبيِّ ﷺ، يعني أنَّهم يكُونون قَليلاً ثم يَزدَادون ويَكثَرون ويَقْوَوْنَ، قال قتادةُ :(مَكْتُوبٌ فِي الإنْجِيلِ : أنَّهُ سَيَخْرُجُ قَوْمٌ يَنْبُتُونَ نَبَاتَ الزَّرْعِ، يَأْمُرُونَ بالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).


الصفحة التالية
Icon