قوله :﴿ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا ﴾ ؛ " نزلَ ذلك في الأَوْسِ والخزرَجِ بسبب الكلامِ الذي جرَى بين عبدِالله بن أُبَي رأسِ المنافقين وعبدِالله ابن رَوَاحة لَمَّا اسْتَبَّا جَاءَ قوْمُ هَذا فَاقْتَتَلُواْ بالنِّعَالِ وَالتَّرَامِي بالْحِجَارَةِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ سَيْفٌ.
وَسَبَبُ اخْتِصَامِهِمَا أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَقَفَ ذاتَ يَوْمٍ عَلَى مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الأَنْصَار وَهُوَ عَلَى حِمَارهِ، فبَالَ حِمَارُهُ وَهِيَ أرْضٌ سَبْخَةٌ، فَأَمْسَكَ عَبْدُاللهِ بْنُ أُبَيٌّ آنْفَهُ وَقَالَ : إلَيْكَ عَنِّي فَوَاللهِ لَقَدْ آذانِي نَتَنُ حِمَاركَ. فَقَالَ عَبْدُاللهِ بْنُ رَوَاحَةَ : وَاللهِ لَنَتَنُ حِمَار رَسُولِ اللهِ أطْيَبُ ريْحاً مِنْكَ.
فَغَضَّبَ لعَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيٍّ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهٍ، وغَضِبَ لابْنِ رَوَاحَةَ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَاسْتَبُّواْ وَتَحَامَلَ أصْحَابُ كُلِّ وَاحِدٍ مِعَ أصْحَاب الآخَرِ، فَتَجَادَلُواْ بالأَيْدِي وَالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ، فَقَرَأهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فَاصْطَلَحُواْ وَكَفَّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ.
وَأقْبَلَ بَشِيرُ بْنُ النُّعْمَانِ الأَنْصَاريُّ مُشْتَمِلاً عَلَى سَيْفِهِ فَوَجَدَهُمْ قَدِ اصْطَلَحُواْ، فَقَالَ عَبْدُاللهِ بْنُ أُبَيٍّ : أعَلَيَّ تَشْتَمِلُ بالسَّيْفِ يَا بَشِيرُ ؟ قَالَ : نَعَمْ وَالَّذِي أحْلِفُ بهِ لَوْ جِئْتُ قَبْلَ أنْ تَصْطَلِحُواْ لَضَرَبْتُكَ حَتَّى أقْتُلَكَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا ﴾ أي الدُّعاء إلى حُكم اللهِ والرِّضا بما في كتاب اللهِ لهما وعليهما.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى ﴾ ؛ أي طَلبت ما ليس لها ولم ترجِعْ إلى الصُّلح، ﴿ فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ﴾ ؛ حتى ترجعَ عن البغيِ إلى كتاب اللهِ، والصُّلح الذي أمر اللهُ تعالى به.
والبغيُ هو الاستطالَةُ، والعدولُ عن الحقِّ وعمَّا عليه جماعةُ المسلمين. والطائفةُ الباغِيَةُ هي التي تطلبُ ما ليس لها أنْ تَطْلُبَهُ، قولهُ ﴿ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ﴾ أي حتى ترجعَ إلى طاعةِ اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ ﴾ ؛ أي واعدِلُوا في الإصلاحِ بينهما، وفي كلِّ حكمٍ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ ؛ أي يحبُّ الذين يَعدِلُون في حُكمِهم وأهلِيهم وما تولَّوهُ، الإقْسَاطُ في اللغة هو العَدْلُ، يقالُ : أقسَطَ الرجلُ إذا عَدَلَ، وقَسَطَ إذا جَارَ، ومنه قولهُ﴿ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً ﴾[الجن : ١٥].
وعن ابنِ عُمر رضي الله عنه أن النبيَّ ﷺ قال :" يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ ؛ هَلْ تَدْري كَيْفَ حُكْمُ اللهِ فِيمَنْ يَفِيءُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ " ؟ قَالَ : اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ، قالَ :" لاَ يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهَا وَلاَ يُقْتَلُ أسِيرُهَا وَلاَ يُطْلََبُ هَاربُهَا وَلاَ يُقْسَمُ فِيْهَا ".