وقوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ ﴾ ؛ معناهُ : إنَّ اللهَ يعلمُ بكلِّ ما في السَّمواتِ وكلِّ ما في الأرضِ مما ظهرَ للعبادِ، ﴿ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾[يونس : ٦١].
وقولهُ تعالى :﴿ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ﴾ يعني الْمُسَّار ؛ ما تُناجِي به صاحبَكَ من شيءٍ إلاّ هو رابعُهم بالعلمِ. يعني نجوَاهم معلومةٌ عندَهُ كما تكون معلومةً عند الرابعِ الذي هم معهم، ﴿ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ﴾ ؛ ولا أقلَّ من ثلاثةٍ ولا أكثرَ من الخمسةِ إلاَّ وهو عالِمٌ بهم وقادرٌ عليهم في أيِّ موضعٍ كانوا، ﴿ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ ؛ عند الجزاءِ والحساب، ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ ؛ وهذه الآيةُ نزَلت في اليهودِ والمنافقين لَمَّا أعيَاهُم الإسلامُ وظهورهُ وجعلوا يتنَاجَون فيما بينهم فيُوهِمون المؤمنين أنَّهم يتناجَون فيما يسُوءُهم.
وكانوا إذا خَرجت سريَّةٌ من سَرايا رسولِ الله ﷺ، فرَأى هؤلاءِ رِجَالاً مِمَّن خرجَ لهم في السريَّة صديقٌ أو قريب تنَاجَوا فيما بينهم ليَظُنَّ الرجلُ أنه حدثَ بصاحبهِ حادثٌ فيحزنُ عليه لذلك. فلمَّا كَثُرَ ذلك وطالَ شَكَوا ذلك إلى رسولِ اللهِ ﷺ فنهَاهُم عن المناجاةِ دون المسلمين، فلم ينتَهُوا وعادُوا إلى مُناجَاتِهم، فأنزلَ اللهُ :
قولَهُ تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُواْ عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ ﴾ ؛ معناهُ : ألَمْ ترَ إلى هؤلاءِ الذين نَهاهُم اللهُ عن مُنَاجَاةِ بعضهم بعضاً دون المؤمنين في الآيةِ التي قبلَ هذه، ثم عَادُوا إليها مُغَايَظَةً لأصحاب رسولِ الله ﷺ، ويتشَاوَرُون فيما بينهم بالكَذِب والاعتداءِ، ويُوصِي بعضُهم بعضاً بمخالفةِ النبيِّ ﷺ، ﴿ وَإِذَا جَآءُوكَ ﴾ ؛ يا مُحَمَّدُ، ﴿ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ ﴾ ؛ أي سلَّمُوا عليك بما لم يسَلِّمُ به اللهُ عليكَ.
" وَذلِكَ أنَّ الْيَهُودَ دَخَلُوا عَلَى النَّبيِّ ﷺ فَقَالُواْ : السَّامُ عَلَيْكَ! وَكَانَتْ عَائِشَةُ مِنْ وَرَاءِ سَتْرٍ فَلَعَنَتْهُمْ، فَقَالَ ﷺ :" مَهْلاً يَا عَائِشَةُ " فَقَالَتْ : أمَا سَمِعْتَ مَا قَالُواْ ؟ قَالَ :" أوَمَا سَمِعْتِ كَيْفَ أجَبْتُهُمْ ؟ " ثُمَّ قَالَ :" إذا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أحَدٌ مِنْ أهْلِ الْكِتَاب فَقُولُواْ : عَلَيْكَ مَا قُلْتَ " والسَّامُ هو الموتَ،
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ ﴾ ؛ معناهُ : أنَّهم كانوا يقُولون فِي أنفُسِهِم : ألاَ ينَزِّلُ اللهُ العذابَ بنا بما نقولُ لنَبيِّهِ إنْ كان نَبيّاً كما يزعمُ، فلو كان مُحَمَّدٌ نَبيّاً لعَذبَنا اللهُ بما نقولُ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا ﴾ ؛ أي كَافِيهم جهنمُ عذاباً لَهم يلزَمُونَها ويُقَاسُونَ حرَّها، ﴿ فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ ؛ أي فبئْسَ الْمَرْجِعُ يرجعون إليه.