قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ ؛ قال مقاتلُ :" كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُكْرِمُ أهْلَ بَدْرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَار، فَجَاءَ نَاسٌ مِنْ أهْلِ بَدْرٍ وَمِنْهُمْ ثَابتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسِ وَقَدْ سَبَقُواْ فِي الْمَجْلِسِ، فَقَامُواْ حِيَالَ النَّبيِّ ﷺ فَقَالُواْ : السَّلاَمُ عَلَيْكَ أيُّهَا النَّبيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَرَدَّ عَلَيْهِمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ سَلَّمُواْ عَلَى الْقَوْمِ بَعْدَ ذلِكَ، فَرَدُّوا عَلَيْهِمْ.
فَقَامُواْ عَلَى أرْجُلِهِمْ يَنْتَظِرُونَ أنْ يُوَسَّعَ لَهُمْ، فَعَلِمَ النَّبيُّ ﷺ مَا لَحِقَهُمْ مِنْ ضَرَر الْقِيَامِ، فَشُقَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أهْلِ بَدْرٍ :" قُمْ يَا فُلاَنُ وَأنْتَ يَا فُلاَنُ " فَأَقَامَ مِنَ الْمَجْلِسِ بقَدْر النَّفَرِ الَّذِينَ قَامُواْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ أهْلِ بَدْرٍ.
فَشُقَّ ذلِكَ عَلَى مَنْ أُقِيمَ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَعَرَفَ النَّبيُّ ﷺ الْكَرَاهِيَةَ فِي وُجُوهِهِمْ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ لِلْمُسْلِمِينَ : ألَسْتُمْ تَزْعُمُونَ أنَّ صَاحِبَكُمْ يَعْدِلُ بَيْنَ النَّاسِ ؟ فَوَاللهِ مَا عَدَلَ عَلَى هَؤُلاَءِ إنَّ قَوْماً أخَذُواْ مَجَالِسَهُمْ، وَأحَبُّوا الْقُرْبَ مِنْ نَبيِّهِمْ فَأَقَامَهُمْ وَأجْلَسَ غَيْرَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ".
قولهُ تعالى :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي الْمَجَالِسِ ﴾ أي أوسِعُوا في المجلسِ ﴿ فَافْسَحُواْ ﴾ أي أوْسِعُوا على مَن حضرَ مجلسَ رسولِ الله ﷺ وأحبَّ سماعَ كلامهِ ؛ لتَشتَرِكُوا في سماعِ الدِّين منه، وهذا أمرٌ لَهم بالتأديب كي لا يؤذِي أحدٌ جليسَهُ بفعلِ الزِّحامِ، ولئلاَّ يكون غرضُهم إلاَّ التواضعُ للهِ تعالى وللدِّين، وذلك أنَّهم كانوا قد جلَسُوا مُتَضايقين حولَ النبيِّ ﷺ، فأُمِرُوا أن يتنَحَّوا عنه في الجلوسِ ويتوَسَّعوا المجلسَ غيرَهم معهم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ أي يُوسِّع مجالِسَكم في الجنَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ فَانشُزُواْ ﴾ ؛ معناهُ : وإذا قِيْلَ : انْهَضُوا إلى صلاةٍ أو أمرٍ بمعروف ونُودِيَ للصَّلاة فانْهَضوا. وَقِيْلَ : معناهُ : وإذا قيلَ لكم اخرجُوا إلى الجهادِ فاخرُجوا يرفعِ الله درجاتِكم في الجنَّة، ويرفعِ اللهُ الذين أُوتوا العلمَ درجاتٍ فوقَ درجاتِ الذين أُكرِمُوا بالإيمانِ بغير علمٍ.
وفي الحديثِ أنَّ النبيَّ ﷺ قال :" إنَّ الْعَالِمَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ وَالطَّيْرُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الَّذِي لَيْسَ بعَالِمٍ سَبْعُونَ دَرَجَةً، اللهُ أعْلَمُ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ " وقال ﷺ :" فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابدِ كَفَضْلِي عَلَى سَائِرِ أُمَّتِي "، وقال ﷺ :" يُؤتَى بالْعَالِمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْعَابدِ، فَيُقَالُ لِلْعَابدِ : أُدْخُلِ الْجَنَّةَ، وَيُحْبَسُ الْفَقِيهُ فَيَقُولُ : فَبمَ حَبَسْتُمُونِي؟! فَيُقَالُ لَهُ : اشْفَعْ ".
قرأ أهلُ المدينة والشام وعاصم (انْشُزُوا فَانْشُزُوا) بضمِّ الشين، وقرأ الآخرون بكسرِها، وهما لُغتان، ومعناهما : إذا قيلَ لكم تحرَّكُوا وقُومُوا وارتفعوا وتوسَّعوا لإخوانِكم فافعَلُوا. وَقِيْلَ : معناهُ : إذا قيل لكم انْهَضُوا إلى الصَّلاة والذِّكر وعملِ الخير، فانشُزوا ولا تقَصِّروا.
وقولهُ تعالى :﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ ﴾ ؛ يعني يَرفَعُهم بطاعةِ رسول الله ﷺ وقيامِهم من مجالسِهم وتوسِعهم لإخوانِهم، ﴿ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ ؛ منهم بفضلِ عَمَلِهم، قال ﷺ :" مَنْ جَاءَتْ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يَطْلُبُ الْعِلْمَ، فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الأَنْبيَاءِ دَرَجَةٌ وَاحِدَةٌ ".