قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ﴾ وذلك أنَّ رسُولَ الله ﷺ لَمَّا صَالَحَ قُرَيْشاً يَوْمَ الْحُدَيْبيَةِ عَلَى أنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ مَنْ جَاءَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا هَاجَرَ إلَيْهِ النِّسَاءُ أبَى اللهُ أنْ يَرْجِعْنَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَأمَرَ بامْتِحَانِهِنَّ، وقوله تعالى :﴿ فَامْتَحِنُوهُنَّ ﴾ وذلك أنْ تُستَحلَفَ المهاجِرةُ ما هاجَرتْ لِحَدَثٍ أحدثَتْهُ، ولا خَرَجَتْ عِشْقاً لرجُلٍ من المسلمين ولا خرجَتْ إلاَّ رغبةً في الإسلامِ.
قال ابنُ عبَّاس :" صَالَحَ رَسُولُ اللهِ ﷺ كُفَّارَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبيَةِ عَلَى أنَّ مَنْ أتَاهُ مِنْ مَكَّةَ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ، وَمَنْ أتَى مَكَّةَ مِنْ أصْحَابهِ فَهُوَ لَهُمْ، وَلَمْ يَرُدُّوهُ عَلَيْهِ، وَكَتَبَ النَّبِيُّ ﷺ بذلِكَ كِتَاباً لَهُمْ وَخَتَمَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا خَتَمَ عَلَيْهِ النَّبيُّ ﷺ جَاءَتْهُ سَبيعَةُ بنْتُ الْحَارثِ الأَسْلَمِيَّةُ مُسْلِمَةً.
فَجَاءَ زَوْجُهَا إلَى النَّبيِّ ﷺ وَهُوَ كَافِرٌ وَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ رُدَّهَا عَلَيَّ، فَإنَّكَ شَرَطْتَ لَنَا ذلِكَ عَلَيْكَ، وَهَذِهِ طِينَةُ كِتَابنَا لَمْ تَجِفَّ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ﴾ ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ﴾ ؛ فَاسْتَحْلَفَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ " باللهِ مَا أخْرَجَكِ إلَيْنَا إلاَّ الْحِرْصُ عَلَى الإيْمَانِ وَالرَّغْبَةُ فِيْهِ وَالْمَحَبَّةُ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلإسْلاَمِ " فَحَلَفَتْ باللهِ الْعَظِيمِ الَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ مَا خَرَجْتُ إلاَّ لِذلِكَ، فَأَمَرَ النَّبيُّ ﷺ أنْ يُعْطَى زَوْجُهَا مَهْرَهَا الَّذِي أُنْفِقَ عَلَيْهَا، فَأَعْطَوْهُ مَهْرَهَا وذلك معنى قولهِ :﴿ وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ ﴾ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ﴾ أي هذا الامتحانُ لكم، واللهُ عالِمٌ بهنَّ، وليس عليكم إلاَّ علمُ الظاهرِ، واللهُ أعلَمُ بإيمانِهنَّ قبلَ الامتحانِ وبعدَهُ، فإن علمتُموهنَّ في الظاهرِ بالامتحان أنَّهن مؤمناتٍ فلا تردُّوهن إلى أزواجهنَّ الكفَّار بمكة، لا المؤمناتُ حِلٌّ للكفار ولا الكفارُ يحلُّون للمؤمناتِ. وقوله تعالى :﴿ وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ ﴾ أي أعطُوا أزواجَ المهاجراتِ من الكفَّار ما أنفَقُوا عليهنَّ من المهرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾ ؛ أي لا جُناحَ عليكم أنْ تتزوَّجُوهن إذا أعطيتُموهنَّ مُهورَهن ولو كان لَهنَّ أزواجٌ كفَّار في دار الكفر ؛ لأن الإسلامَ قد فرَّقَ بينها وبين الكافرِ، وهذا كلُّه دليلٌ أنَّ الْحُرَّةَ إذا هاجَرت إلينا مُسلمةً أو ذميَّة وقعتِ الفرقةُ بينهما بنفسِ الْمُهَاجَرَةِ، كما هو مذهبُ أصحابنا.
ولهذا قال أبو حنيفةَ :(إنَّ الْمُهَاجِرَةَ لاَ عِدَّةَ عَلَيْهَا لأنَّ اللهَ تَعَالَى أبَاحَ لِلْمُسْلِمِينَ التَّزَوُّجَ بالْمُهَاجِرَاتِ مِنْ غَيْرِ أنْ يَشْرُطَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ، وَلَوْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ بَاقِيَةً بَعْدَ الْمُهَاجَرَةِ لَمَا أمَرَ اللهُ برَدِّ مُهُورهِنَّ عَلَى أزْوَاجِهِنَّ.


الصفحة التالية
Icon