قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً ﴾ ؛ قال الحسنُ :" أصَابَ أهْلَ الْمَدِينَةِ جُوعٌ َوَغَلاَءُ سِعْرٍ، فَقَدِمَ دَحِيَّةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبيُّ مِنَ الشَّامِ بتِجَارَةٍ، وَكَانَ يَقْدُمُ الْمَدِينَةَ بكُلِّ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ دَقِيقٍ وَبُرٍّ وَغَيْرِهِ، فَيَنْزِلُ فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ وَيَضْرِبُ الطَّبْلَ لِيُعْلِمَ النَّاسَ بقُدُومِهِ، فَيَخْرُجُونَ إلَيْهِ لِيَبْتَاعُوا مِنْهُ.
فَقَدِمَ ذاتَ يَوْمِ جُمُعَةٍ - وَكَانَ قَبْلَ إسْلاَمِهِ - وَرَسُولُ اللهِ ﷺ قَائِمٌ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَضَرَبَ الطَّبْلَ فَخَرَجَ النَّاسُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يَبْقَ إلاَّ ثَمَانِيَةُ رَهْطٍ ثَبَتُوا مَعَ النَّبيِّ ﷺ - وَقِيْلَ : بَقِيَ اثْنَى عَشَرَ رَجُلاً وَامْرَأةٌ - فَقَالَ ﷺ :" لَوْ لَحِقَ آخِرُهُمْ أوَّلَهُمْ لاَلْتَهَبَ الْوَادِي عَلَيْهِمْ نَاراً " فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ".
وقولهُ تعالى ﴿ انفَضُّواْ إِلَيْهَا ﴾ أي تفَرَّقوا بالخروجِ إليها ﴿ وَتَرَكُوكَ قَآئِماً ﴾ على المنبرِ تخطبُ. وفي هذا دليلٌ على وجوب استماعِ الْخُطبَةِ ؛ لأنَّ اللهَ تعالى عاتبَهم على تركِ الاستماعِ، ولو لم يكن فَرضاً لم يُعاتَبوا على ذلك.
ويستدلُّ من هذه الآيةِ على أنَّ من السُّنة أن يَخطُبَ الإمامُ قَائماً. والكنايةُ في قولهِ تعالى :﴿ إِلَيْهَا ﴾ راجعةٌ إلى التِّجارةِ دونَ اللَّهوِ، وإنما خُصَّت التجارةُ برَدِّ الضميرِ إليها ؛ لأنَّها كانت أهمَّ إليهم لأنَّ السَّنة كانت سَنَةَ مجاعةٍ وغلاء سعرٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ﴾ ؛ معناهُ : ما عندَ اللهِ من ثواب الصَّلاة والثباتِ مع النبيِّ ﷺ خيرٌ من اللَّهوِ ومن التجارةِ، ﴿ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ ؛ أي ليس يَفوتُهم من أرزاقِهم لتخلُّفهم عن الْمِيرَةِ شيءٌ، ولا بتَركِهم البيعَ في وقتِ الصَّلاة.