قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ﴾ ؛ معناهُ : إنَّا امتَحنَّا أهلَ مكة بالجوعِ والقحط والقتلِ والسَّبي والهزيمةِ يومَ بدرٍ، كما امتحنَّا أهلَ البُستان، وأراد به بُستاناً كان باليمنِ يعرَفُ بالقيروان دونَ صَنعاء بفرسخَين، كان يطئُوه أهلُ الطريقِ، قد غرسَهُ قومٌ بعدَ عيسى عليه السلام وهم قوم بخلاء، وَقِيْلَ : من بني إسرائيلَ، وكانوا مُسلمين باليمنِ، ورثُوا هذا الستانَ من أبيهم وفيه زرعٌ ونخيل، وكان أبوهم يجعلُ مما فيه حظّاً للمسلمين عند الحصادِ والصِّرامِ.
فلمَّا ماتَ أبوهم ورثوهُ وكانوا ثلاثةً، قالوا : إنَّ المالَ قليلٌ والعيالَ كثيرٌ، فلا يسَعُنا أن نفعلَ ما كان يفعلُ أبونا، وإنما كان أبونا يفعلُ ذلك لأن المالَ كان كثيراً والعيالَ قليلاً، فعزَمُوا على حِرمان المساكين، فتحالَفُوا بينهم يوماً ليَغْدُوا غدوةً قبل خروجِ الناس ليَقطَعُوا نَخلَهم إذا أصبَحُوا بسَرِقَةٍ من الليلِ من غير أن يشعُرَ بهم المساكينُ، ﴿ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ ﴾ ؛ أي ولا يقُولون إنْ شاءَ اللهُ، وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا ﴾ أي ليقطعُنَّ ثَمرَها ﴿ مُصْبِحِينَ ﴾ أي عندَ طُلوعِ الفجرِ قبلَ أن يخرُجَ المساكينُ إليه ﴿ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ ﴾ أي ولم يقولوا إنْ شاءَ اللهُ.
ورُوي أنَّ أبَاهم كان يأخذُ من هذا البستان قُوتَ سَنَةٍ لنفسهِ، وكان يتصدَّقُ بما بَقِيَ على المساكين. وَقِيْلَ : إنه كان يتركُ لَهم ما خرجَ من السِّباط الذي كان يسقطُ تحتَ النَّخلة إذا صُرمت، فقالَ بنوهُ بعدَ موتهِ : نحن جماعةٌ وإنْ فعَلنا ما كان يفعلهُ أبونا ضاقَ عَيشُنا، فحَلَفوا ليَصْرِمُنَّها مُصبحين لئلاَّ يصِلَ إلى المساكين منها شيءٌ، وَلاَ يَسْتَثْنُونَ.
وإنما شبَّهَ اختبارَ أهلَ مكَّة باختبار أهلِ البستان ؛ لأن أبَا جهلٍ كان قال يومَ بدرٍ قبل التقاءِ الفئتين، وَاللهِ لَنَأْخُذهُمْ أخْذاً، وَلَمْ يَسْتَثْنِ، فقالَ ﷺ حِينَ بَلَغَهُ الْخَبَرُ :" اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ سِنِينَ كَسِنِينِ يُوسُفَ "، وكان هذا الدعاءُ قبلَ وقوعِ الهزيمة على الكفَّار، فابتلاهُم اللهُ بالجوعِ والقحط سبعَ سنين حتى أكَلُوا العظامَ المحرَّقة.