قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ ﴾ ؛ اختلَفُوا في ذلكَ، قال بعضُهم : كان عادةِ العرب أنَّهم إذا حَسَدُوا إنساناً تجوَّعُوا ثلاثةَ أيَّام، ثم خرَجُوا عليه فقالوا لَهُ : ما أحْسَنَكَ ؛ ما أجْمَلَكَ ؛ ما كذا وكذا ليُصِيبوهُ بأَعيُنهم، فتوَاطَؤا على أنْ يفعلوا ذلك بالنبيِّ ﷺ، فدفعَ اللهُ عنه كيدَهم وشرَّهم. وَقِيْلَ : إن العينَ كان في بني إسرائيل أشدَّ، حتى أنَّ الناقةَ السمينة والبقرةَ السَّمينة كانت تَمُرُّ بأحدِهم، فيُعَاينُوها ثم يقولُ : يا جاريةُ خُذِي الزَّنبيلَ والدرهمَ واذهَبي أئْتِنَا بلحمٍ مِن هذه، فما يبرحُ أن تُنحَرَ من سَاعَتِها.
قال الكلبيُّ :(كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَب يَمْكُثُ لاَ يَأْكُلُ يَوْمَيْنِ أوْ ثَلاَثَة، ثُمَّ يَرْفَعُ جَانِبَ خِبَائِهِ فَتَمُرُّ بهِ الإبلُ، فَيَقُولُ فِيْهَا مَا يُعْجِبُهُ، فَمَا تَذْهَبُ إلاَّ قَرِيباً حَتَّى تَسْقُطَ لِوَقْتِهَا، فَسَأَلَ الْكُفَّارُ هَذا الرَّجُلَ أنْ يُصِيبَ رَسُولَ اللهِ ﷺ بعَيْنِهِ وَيَفْعَلَ بهِ مِثْلَ ذلِكَ، فَأجَابَهُمْ إلَى ذلِكَ، فَعَصَمَ اللهُ تَعَالَى نَبيَّهُ وَحَفِظَهُ عَنْهُمْ، وَأنْزَلَ هَذِهِ الآيَةَ).
ورُوي أنَّ الكفارَ كانوا يَقصِدُون رسولَ اللهِ ﷺ أنْ يُصِيبوهُ بالعينِ، وكانوا ينظُرون إليه نظرَ أشدّ يَداً بالعينِ، وقال الزجَّاجُ :(مَعْنَى الآيَةِ : أنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا مِنْ شِدَّةِ بُغْضِهِمْ لِرَسولِ اللهِ ﷺ يَنْظُرُونَ إلَيْهِ نَظَرَ الْبَغْضَاءِ)، والمعنى : تكادُ الكفَّارُ بنظرِهم إليكَ أنْ يصرَعُوكَ.
وقرأ نافعُ (لِيَزْلِقُونَكَ) بفتحِ الياء، يقالُ : زَلَقَ هو وَزَلَقْتُهُ، مثلُ حَزَنْتَهُ وحَزَنَ هُوَ، وقرأ الباقون (لِيُزْلِقُونَكَ) من أزْلَقَهُ من موضعهِ إذا نَحَّاهُ، وعن رسولِ الله ﷺ أنَّهُ قَالَ :" الْعَيْنُ حَقٌّ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ يَسْبقُ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ " وقال :" إنَّ الْعَيْنَ لَتُدْخِلُ الرَّجُلَ الْقَبْرَ، وَالْجَمَلَ الْقِدْرَ " وَقِيْلَ : معنى الآيةِ : وإن يكادُ الذين كفَرُوا من شدَّة إبغاضِهم وعداوتِهم لكَ يُسقِطُونَكَ وَيصرِفُونَكَ عمَّا أنتَ عليه من تبليغِ الرِّسالةِ ويُزِيلونَكَ عن المقامِ الذي أقامكَ اللهُ فيه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَمَّا سَمِعُواْ الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ﴾ ؛ أي لما أعيَتهُم الحيلةُ عن صرفِ الناس عنكَ نسبُوكَ إلى الجنونِ مع علمِهم بخلاف ذلك. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَمَّا سَمِعُواْ الذِّكْرَ ﴾ يعني القرآنَ، وذلك أنَّهم يكرَهُون القرآنَ أشدَّ الكراهةِ، فيُحِدُّونَ النظرَ إلى النبيِّ ﷺ حين يتلوهُ بالبغضاءِ، وكانوا يَنسِبُونَهُ إلى الجنونِ إذا سَمعوهُ يقرأ القرآنَ، فقال اللهُ تعالى :﴿ وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ﴾ ؛ أي ما القرآنُ الذي يقرؤهُ عليهم إلاَّ عِظَةٌ للخلائقِ كلِّهم.