قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى ﴾ ؛ أي سيُباعَدُ عنها التقيُّ، ﴿ الَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى ﴾ ؛ أي لم يفعَلْ مجازاةً لبرٍّ أسدِيَ إليه ولا لمثابةِ الدُّنيا، ولكن أعطى ما أعطَى لطلب ثواب الله ورضاهُ، ولسوفَ يُعطيهِ اللهُ في الآخرة من الثواب حتى يرضَى.
قِيْلَ : إنَّ قولَهُ ﴿ وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى ﴾ إلى آخرِ السُّورة نزَلت في أبي بكرٍ رضي الله عنه، حدَّثَنا هشامُ بنُ عروة عن أبيهِ :((أنَّ أبَا بَكْرٍ رضي الله عنه أعْتَقَ سَبْعَةً، كُلُّهُمْ كَانُوا يُعَذبُونَ فِي اللهِ تَعَالَى، وَهُمْ : بلاَلُ ؛ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ شَهِدَ بَدْراً وَأُحُداً وَقُتِلَ يَوْمَ بئْرِ مَعُونَةَ شَهِيداً. وأمُّ عُمَيس وَزَنِيرَةَ، فَأُصِيبَ بَصَرُهَا حِينَ أعْتَقَهَا، فَقَالَتْ قُرَيْشُ : مَا أذْهَبَ بَصَرَهَا إلاَّ اللاَّتُ وَالْعُزَّى! فَقَالَتْ : كَذبُوا وَثَبَّتَها اللهُ، فَرَدَّ اللهُ بَصَرَهَا. وَأعْتَقَ النَّهْدِيَّةَ وَابْنَتَهَا، وَكَانَتَا لاِمْرَأةٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّار، وَمَرَّ بجَاريَةِ بَنِي مُؤَمَّلٍ حَيّ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَكَانَتْ مُسْلِمَةً، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب يُعَذِّبُهَا لِتَرْكِ الإسْلاَمِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ، فَاشْتَرَاهَا أبُو بَكْرٍ فَأَعْتَقَهَا.
فَأَمَّا بلاَلٌ فَكَانَ لِبَعْضِ بَنِي جَمْحٍ مُوَلَّداً مِنْ مُوَلَّدِيهِمْ وَهُوَ بلاَلُ بْنُ رَبَاح، وَكَانَ اسْمُ أُمِّهِ حَمَامَةٌ، وَكَانَ صَادِقَ الإسْلاَمِ طَاهِرَ الْقَلْب، وَكَانَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ الْجَمْحِيُّ يُخْرِجُهُ إذا حَمِيَتِ الظَّهِيرَةُ فَيَطْرَحُهُ عَلَى ظَهْرِهِ فِي بَطْحَاءِ مَكَّةَ، ثُمَّ يَأْمُرُ بالصَّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ، فَتُوضَعُ عَلَى صَدْرهِ، وَيُقَالُ لَهُ : لاَ تَزَالُ هَكَذا حَتَّى تَمُوتَ أوْ تَكْفُرَ بمُحَمَّدٍ وَتَعْبُدَ اللاَّتَ وَالْعُزَّى، فَيَقُولُ وَهُوَ فِي ذلِكَ الْبَلاَءِ : أحَدٌ أحَدٌ.
فَمَرَّ بهِ أبُو بَكْرٍ يَوْماً وَهُمْ يَصْنَعُونَ بهِ ذلِكَ، فَقَالَ لأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ :(ألاَ تَتَّقِي اللهَ فِي هَذا الْمِسْكِينِ ؟ حَتَّى مَتَى؟) فَقَالَ : أنْتَ أفْسَدْتَهُ فَأَنْقِذْهُ مِمَّا تَرَى. فَقَالَ أبُو بَكْرٍ :(عِنْدِي غُلاَمٌ أسْوَدُ أجْلَدَ مِنْهُ، وَأقْوَى عَلَى دِينِكَ أُعْطِيكَهُ بهِ). قَالَ : قَدْ قَبلْتُ، قَالَ :(هُوَ لَكَ). فَأَعْطَاهُ أبُو بَكْرٍ غُلاَمَهُ ذلِكَ وَأخَذَ بلاَلاً فَأَعْتَقَهُ. فَقَالُواْ : لَوْ أبَيْتَ أنْ تَشْتَرِيَهُ إلاَّ بأُوْقِيَّةِ لَمَا مَنَعْنَاكَ. فَقَالَ أبُو بَكْرٍ :(وَلَوْ أبَيْتُمْ إلاَّ بمِائَةِ أُوْقِيَّةٍ لأَخَذْتُهُ).
وَأمَّا النَّهْدِيَّةُ وَابْنَتُهَا فَكَانَتَا لامْرَأةٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّار، مَرَّ بهِمَا أبُو بَكْرٍ وَهُمَا يَطْحَنَانِ، وَسَيِّدَتُهُمَا تَقُولُ : وَاللهِ لاَ أُعْتِقُكُمَا أبَداً، فَقَالَ لَهَا أبُو بَكْرٍ :(يَا أُمَّ فُلاَنٍ خَلِّ عَنْهُمَا)، فَقَالَتْ : بَلْ أنْتَ خَلِّ عَنْهُمَا، أنْتَ أفْسَدْتَهُمَا، فَقَالَ :(بكَمْ هُمَا؟) قَالَتْ : بكَذا وَكَذا، قَالَ :(أخَذْتُهُمَا بذلِكَ وَهُمَا حُرَّتَانِ للهِ تَعَالَى) ثُمَّ قَالَ لَهُمَا :(قُومَا وَارْبَعَا لَهَا طَحِينَهَا)، قَالَتَا : ألاَ نَفْرَغُ مِنْ طَحِينهَا وَنَرُدُّهُ إليَهَا ؟ قَالَ :(ذلِكَ إلَيْكُمَا إنْ شَئْتُمَا).
فَقَالَ أبُو قُحَافَةَ لأَبي بَكْرٍ :(يَا بُنَيَّ إنِّي أرَاكَ تُعْتِقُ رقَاباً ضِعَافاً، فَلَوْ أنَّكَ أعْتَقْتَ رجَالاً جِلاَداً يَمْنَعُونَكَ وَيُقَوِّمُونَ دُونَكَ؟) فَقَالَ أبُو بَكْرٍ :(يَا أبَهْ إنِّي إنَّمَا أُريدُ اللهَ)، فَنَزَلَ فِيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى :{ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىا.