قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ﴾ ؛ أي لتَرَوْنَّ الجحيمَ في الموقفِ إن متُّم على هذا، ﴿ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ﴾ ؛ مُعاينةً، إذا دخَلتُموها، وتشاهدون في الآخرةِ كلَّ ما شكَكتُم فيه في الدُّنيا، ﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ ؛ ثم لتُسأَلُنَّ يومَ القيامةِ عن اشتغالِكم بنعيمِ الدُّنيا حتى ترَكتُم ما لَزِمَكم من الفرائضِ.
واختلَفُوا في هذا السُّؤال، قال بعضُهم : هو سؤالُ توبيخٍ وتقريع للكفَّار في النار، يقالُ للكافرِ وهو في النار : أين ذهبَ تفاخُركَ ومُلكُكَ ومملكتُكَ وعدَدُكَ، ويؤيِّدُ هذا ما رُوي :" أنَّ أبَا بَكْرٍ رضي الله عنه سَأَلَ النَّبيَّ ﷺ عَنْ أكْلَةٍ أكَلَهَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي بَيْتِ أبي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيْهَانِ الأَنْصَاريِّ مِنْ لَحْمٍ وَخُبْزِ شَعِيرٍ وَمَاءٍ عَذْبٍ وَبُسْرِ قَدْ ذنَّبَ، فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللهِ أتَخَافُ عَلَيْنَا أنْ يَكُونَ عَلَيْنَا مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي نُسْأَلُ عَنْهُ ؟ فَقَالَ ﷺ :" إنَّ ذلِكَ لِلْكُفَّار، ثُمَّ ثَلاَثٌ لاَ يَسْأَلُ اللهُ الْعَبْدَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : مَا يُوَاري بهِ عَوْرَتَهُ، وَمَا يُقِيمُ بهِ صُلْبَهُ، وَمَا يُكِنُّهُ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ. وَهُوَ مَسْؤُولٌ بَعْدَ ذلِكَ عَنْ كُلِّ نِعْمَةٍ " ".
وقالَ ﷺ :" مَا أنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ مِنْ نِعْمَةٍ صَغِيرَةٍ أوْ كَبيرَةٍ فَقَالَ عَلَيْهَا : الْحَمْدُ للهِ، إلاَّ أُعْطِيَ خَيْراً مِمَّا أخَذ ".
وعن أنسٍِ قالَ :" جَاءَ جِبْرِيلُ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ : مَنْ يَسْتَطِيعُ أنْ يُؤَدِّيَ شُكْرَ مَا أنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ ؟ قَالَ :" مَنْ عَلِمَ أنَّ تِلْكَ النِّعْمَةَ مِنْ قِبَلِ اللهِ فَقَدْ أدَّى شُكْرَهَا " ".
وسُئل ابنُ مسعودٍ عن النعيم المذكور في هذه الآيةِ فقال :((الأَمْنُ وَالصِّحَّةُ))، وسُئل عليٌّ رضي الله عنه عَنْ ذلكَ فقال :((خُبْزُ الشَّعِيرِ، وَالْمَاءُ الْقِرَاحُ)). ويقالُ : إنَّه باردُ الشَّراب، وظلُّ المساكنِ، وشبَعُ البطونِ. ويقالُ : يُسْألُ عن الماء الباردِ في شدَّة الحرِّ، وعن الماءِ الحارِّ في شدَّة البردِ.
وهذا كلُّه محمولٌ على ما إذا تشاغلَ بشيءٍ من هذه المباحات، فتركَ بها واجباً عليه، وأمَّا إذا لم يكن ذلك، فإنه لا يُسأل عنها ولا يُحاسَبُ عليها.
وعن رسولِ الله ﷺ أنه قالَ :" النَّعِيمُ الْمَاءُ الْبَاردُ وَالرُّطَبُ " وقال عبدُالله ابنُ عمرَ :((هُوَ الْمَاءُ الْبَاردُ فِي الصَّيْفِ)). وفي الخبرِ المأثور :" أنَّ أوَّلَ مَا يَسْأَلُ اللهُ الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أنْ يَقُولَ لَهُ :" ألَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ ؟ ألَمْ أرْوكَ مِنَ الْمَاءِ الْبَاردِ ؟ ".
وقال ﷺ :" " إذا شَرِبَ أحَدُكُمُ الْمَاءَ، فَلْيَشْرَبْ أبْرَدَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ " قِيلَ : وَلِمَ ؟ قَالَ :" لأَنَّهُ أطْفَأُ لِلْمَرْءِ، وَأنْفَعُ لِلعِلَّةِ، وَأبْعَثُ لِلشُّكْر "


الصفحة التالية
Icon