نهي الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين عن اتباع سبيل الشيطان
هذه الثلاثة الأمور، أشار الله تبارك وتعالى إلى أولها بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ).
قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) (يا) : حرف نداء، و (أيُّ) : منادَى، و (الهاء) : للتنبيه.
أي: يا من آمنتم بي، وآمنتم برسلي، وآمنتم بكتابي، ولقائي! لا تتبعوا خطوات الشيطان.
هذا النداء من الله تبارك وتعالى استفتحه بهذه الخصلة العظيمة التي تدل على شرف الإنسان وعلوِّ مكانته عند الله عز وجل وهي صفة الإيمان بالله تبارك وتعالى.
وفي استفتاح هذا النهي بهذا النداء تشويق لأهل الإيمان أن يلتزموا شرع الرحمن، أي: إن كنتم أهل إيمان وطاعة واتباع لي، ولسبيلي لا تكونوا متابعين للشيطان في أوامره التي يأمركم بها بالفحشاء والمنكر.
وهذا النداء يستفتح الله تبارك وتعالى به بعض أوامره، ويستفتح به نواهيه، قال بعض العلماء: إن الله تبارك وتعالى يستفتح أوامره ونواهيه بهذا النداء؛ لكي يشوق السامعين والقارئين للقرآن للعمل بما تضمنه ذلك النداء من الأمر، ولترك ما اشتمل عليه من النهي، ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (إذا سمعت الله عز وجل يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا) فأرعها سمعك، فإنما هو خير تؤمر به، أو شر تُنهى عنه).
ولذلك قال العلماء رحمهم الله: إن الله تبارك وتعالى يستفتح الآيات بهذا النداء الذي يتضمن أحد ثلاثة أمور: - إما أمر بالمعروف.
- وإما نهيٌ عن المنكر.
- وإما أن يجمع بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فمن أمثلة أمره بالمعروف: أمره بتقواه فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ).
ومن أمثلة نهيه عن المنكر كما في هذه الآية الكريمة في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ [النور: ٢١].
فقد تضمنت هذه الآية الكريمة النهي عن اتباع سبيل الشيطان، بل إن النهي عن اتباع خطوات الشيطان هو النهي عن الشر والبلاء كله، فالشر كل الشر في متابعة الشيطان، والخير كل الخير في اتباع سبيل الرحمن، ولن تجد من العبد معصية انتهك بها حدود الله أو أصاب بها محارم الله تبارك وتعالى إلا وجدت الشيطان داعياً إليها محبِّباً إياها ومقرباً منها، ولذلك جمع الله تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة النهي عن أصل الشر كله والتحذير منه، فكل الشر في هذا الأمر، وهو اتباع خطوات الشيطان.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خص الله عز وجل أهل الإيمان في هذه السورة الكريمة ونهاهم عن اتباع سبيل الشيطان، وجاء في آية أخرى النهي لعموم الناس في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [البقرة: ١٦٨] فنهى الله تبارك وتعالى الناس عموماً والمؤمنين خصوصاً: - فشمل النداء عموم الناس مؤمنهم وكافرهم حينما قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ).
- وخصَّ أفضل الناس وهم أهل طاعته، وأهل سبيل محبته، حينما ناداهم في هذه السورة فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا).
وفي هذا النداء دليل على أن الإيمان يستلزم من الإنسان القولَ والعملَ الصالح، كما قرره أهل السنة والجماعة من أن الإيمان بالله عز وجل: (اعتقادٌ بالجَنان، وقولٌ باللسان، وعملٌ بالجوارح والأركان).
اعتقادٌ بالجَنان: فلابد أن يكون جَنان الإنسان أي: قلبه مؤمناً بالله تبارك وتعالى.
وقولٌ باللسان: وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وأما فعلُ الأركان والجوارح: فهو العمل بمقتضى هذه الشهادة، فتكون الأقوالُ والأفعالُ موزونةً بميزان الكتاب والسنة، لا يحيد المؤمن عن ذلك قيد شعرة، فإن حاد نقص إيمانه بقدر ما حاد، وإن ازداد من الخير والطاعة والاستقامة على منهج الله تبارك وتعالى كان أحظى الناس بالإيمان وأعلاهم مرتبةً في طاعة الرحمن.
يقول الله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) الخطوات: جمع خُطوة، وهي ما بين القدمين، ويقال: خَطوة، وهو مصدر.
(لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) للعلماء رحمهم الله في (خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) أقوال: - فمِن أهل العلم مَن قال: إن قوله تبارك وتعالى: (خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) : المراد منه الخطايا التي يصيبها الإنسان باتباعه الشيطان؛ لأن الشيطان متمرد على طاعة ربه، بعيد عن محبة الله عز وجل وسبيل ولايته.
- ومِن أهل العلم مَن قال: إن قوله: (لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) أي: آثاره.
- ومِنهم مَن قال: (لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) المراد بها: نذور المعاصي التي كان عليها أهل الجاهلية في جاهليتهم؛ لأن الشيطان كان يدعوهم بها إلى انتهاك حدود الله، وغشيان محارم الله تبارك وتعالى.
- وهناك قولٌ اختاره بعض المفسرين -وهو قولٌ لطيف- يقول: إن قوله تبارك وتعالى: (لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) المراد بها: انتقال الشيطان من المعصية إلى المعصية، فهو يقود الإنسان إلى حدود الله شيئاً فشيئاً، ويحببه في معاصي الله خطوة خطوة، حتى يفضي به إلى أعظم الحدود وأكبر الكبائر وهو الشرك بالله والعياذ بالله.
- وهناك قولٌ أخيرٌ في هذه الآية الكريمة -وهو القول الخامس-: وأن المراد بقوله: (خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) : أي: الخطوة التي ينتقل بها من الحلال إلى الحرام.
فالمقصود: أن هذه هي أقوال العلماء في قوله تعالى: (لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ).
والذي عليه بعض المحققين: أن الآية شاملة لهذا كله، فما دام أن الجميع يصدُق عليه أنه خطوة للشيطان، فلا مانع أن الله تبارك وتعالى ينهانا عن جميع ذلك، والأصل أن اللفظ ما دام على عمومه أن يُحْمَل على ذلك العموم سواءً ورد في الكتاب أو ورد في السنة فيبقى لفظ الآية الكريمة في الدلالة على العموم حتى يرد النص الذي يدل على شيءٍ مخصوص بعينه.
ومن هنا يتبين لنا أن نهي الله تبارك وتعالى عن اتباع خطوات الشيطان المراد به النهي عن جميع ذلك كله، فالإنسان مطلوب منه أن يبتعد عن متابعة الشيطان سواءً دعاه إلى المعاصي أو نقله إليها خطوة خطوة، فينبغي للمؤمن كلما أحس في قلبه بوسوسة من الشيطان تدعوه إلى معصية الرحمن أن ينكفَّ وينزجر ويطيع الله تبارك وتعالى إذ نهاه في كتابه، وعلى لسان رسوله ﷺ عن متابعة هذه الوساوس والخطرات، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه (خط خطاً مستقيماً، ثم خط عن يمينة خطوطاً، وعن يساره خطوطاً فقال: هذا صراط الله، وهذه السبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه) فكل من أطاع داعي الشيطان إلى تلك السبل وأجابه إلى تلك المعاصي فقد خالف نهي الله تبارك وتعالى، واعتدى حدود الله عز وجل، وانتهك محارمه على قدر عظم ما أصاب من ذلك الذنب الذي أطاع الشيطانَ فيه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) قال بعض العلماء: إن الله عز وجل قد جمع في هذه الآية الكريمة النهي عن أساس الشر كله، وذلك في بعض سطر حينما قال: (لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) وهذا من إعجاز القرآن وحسن بيانه وعظيم شأنه، فإن الله تبارك وتعالى جعل هذا الكتاب المبين معجزاً بلفظه وبمعناه، فجمع الشر في هذا المقطع اليسير من الآية الكريمة.
وقوله تعالى: (خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) : نسبها إلى الشيطان؛ لأنه هو الداعي إليها والمحبِّب فيها، والشيطان على ضربين: - شيطان إنس.
- وشيطان جن.
ولكن إذا أطلق الشيطان فالمراد به أساس الشر وهو إبليس، ويتبعه أعوانه الذين يسلطهم بإذن الله على بني آدم، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أن الشيطان عرشه على الماء، يبعث رسله إلى بني آدم فتنةً من الله وامتحاناً وابتلاءً واختباراً تدعو عباد الله إلى معاصي الله، وتحببهم في انتهاك حدود الله وغشيان محارمه، فالناس بين عبدين: - عبد له مجيب، قد تردى في الدركات والعياذ بالله الموجبة لسخط رب الأرض والسماوات.
- عبد الله يتمرد على شيطانه، ويعتصم بالله تبارك وتعالى، ويلوذ به ويستعيذ به، فينقذه الله عز وجل من شرورهم، قال الله عز وجل: ﴿شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً﴾ [الأنعام: ١١٢].
فالمقصود: أن الله تبارك وتعالى نهانا في هذه الآية الكريمة عن اتباع سبيل الشيطان، سواءً كان ذلك الشيطان شيطان جن أو كان شيطان إنس.


الصفحة التالية
Icon