فإذا ثبت ذلك فصناعة التفسير قد حصل لها الشرف من الجهات الثلاث، وهو أن موضوع التفسير كلام الله تعالى : الذي هو ينبوع كل حكمة معدن كل فضيلة، وصورة فعله : إظهار خفيات ما أودعه منزله من أسراره ليدبروا آياته وليتذكر أول والألباب، وغرضه التمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، والوصول إلى السعادة الحقيقية التي لا فناء لها - ولهذا عظم الله محله بقوله :" ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً " البقرة : ٢٦٩ قيل هو تفسير القرآن الكريم (١).
وقال ابن عطية - رحمه الله - في مقدمة تفسيره : فلما أردت أن أختار لنفسي، وانظر في علم أعد أنواره لظلم رمسي، وسبرتها بالتنويع والتقسيم، وعلمت أن شرف العلم على قدر شرف المعلوم فوجدت أمتنها حبالاً، وأرسخها جبالاً، وأجملها آثاراً، وأسطعها نوراً، علم كتاب الله جلت قدرته، وتقدست أسماؤه، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، الذي استقل بالسنة والفرض، ونزل به آمين السماء إلى أمين الأرض، هو العلم الذي جعل للشرع قواماً، واستعمل سائر المعارف خداماً منه تأخذ مبادئها وبه تعتبر نواشئها، فما وافقه منها نصع وما خالفه رفض ودفع فهو عنصرها النمير وسراجها الوهاج وقمرها المنير.
وأيقنت أنه أعظم العلوم تقريباً إلى الله عز وجل وتخليصاً للنيات، ونهياً عن الباطل وحضاً على الصالحات، إذ ليس من علوم الدنيا فيختل حامله من منازلها صيداً ويمشي في التلطف لها رويداً.
ورجوت أن الله تعالي يحرم على النار فكراً عمرته أكثر عمره معانيه ولساناً مرن على آياته ومثانيه ونفساً ميزت براعة رص فهو مبانيه، وجالت سومها في ميادينه ومغانيه فثنيت إليه عنان النظر وأقطعته جانب الفكر وجعلته فائدة العمر، وما ونيت - علم الله - إلا عن ضرورة بحسب ما يلم في هذه الدار من شغوب، ويمس من لغوب أو بحسب تعهد نصيب من سائر المعارف.