وهذا تأويل في معنى بيت، وإذا كان أول بيت عبادة حق، كان أول معهد للهدى، فكان كل هدى مقتبسا منه فلا محيص لكل قوم كانوا على هدى من الاعتراف به وبفضله، وذلك يوجب اتباع الملة المبنية على أسس ملة بانية، وهذا المفاد من تفريغ قوله :﴿فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾ [البقرة : ٩٥] وتأول الآية علي بن أبي طالب، فروى عنه أن رجلا سأله : أهو أول بيت؟ قال : لا، قد كان قبله بيوت، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركا وهدى فجعل مباركا وهدى حالين من الضمير في ﴿وضع﴾ لا من اسم الموصول، وهذا تأويل في النظم لا ينساق إليه الذهن إلا على معنى أنه أول بيت من بيوت الهدى كما قلنا، وليس مراده أن قوله :﴿وضع﴾ هو الخبر لتعين أو الخبر هو قوله :﴿للذي ببكة﴾ بدليل دخول اللام عليه.
وعن مجاهد قالت اليهود : بيت المقدس أفضل من لكعبة لأنها مهاجر الأنبياء، وقال المسلمون : الكعبة، فأنزل اله هذه الآية، وهذا تأويل ﴿أول﴾ بأنه الأول من شيئين لا من جنس البيوت كلها.
وقبل : أراد بالأول الأشرف مجازا.
وعندي أنه يجوز أن يكون المراد من الناس المعهودين وهم أهل الكتب أعني اليهود والنصارى والمسلمين، وكلهم يعترف بأصالة دين إبراهيم عليه السلام فأول معبد بإجماعهم هو الكعبة فيلزمهم الاعتراف بأنه أفضل مما سواه من بيوت عبادتهم.
وإنما كانت الأولية موجبة التفضيل لأن مواضع العبادة لا تتفاضل من جهة العبادة، إذ هي في ذلك سواء، ولكنها تتفاضل بما يحف بذلك من طول أزمان التعبد فيها، وبنسبتها إلى بانيها، وبحسن المقصد في ذلك، وقد قال تعالى في مجسد قباء ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ﴾ [التوبة : ١٠٨].
وقد جمعت الكعبة جميع هذه المزايا فكانت أسبق بيوت العبادة الحق، وهي أسبق من بيت المقدس بتسعة قرون.


الصفحة التالية
Icon