وفي قوله :﴿غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ رمز إلى نزعه ولاية الحرم من أيديهم : لأنه لما فرض الحج وهم يصدون عنه، وأعلمنا أنه غني عن الناس، فهو لا يعجزه من يصد الناس عن مراده تعالى. أ هـ ﴿التحرير والتنوير حـ ٣ صـ ١٦٨ ـ ١٦٩﴾
فصل
قال الفخر :
اعلم أن تكليف الشرع في العبادات قسمان، منها ما يكون أصله معقولاً إلا أن تفاصيله لا تكون معقولة مثل الصلاة فإن أصلها معقول وهو تعظيم الله أما كيفية الصلاة فغير معقولة، وكذا الزكاة أصلها دفع حاجة الفقير وكيفيتها غير معقولة، والصوم أصله معقول، وهو قهر النفس وكيفيته غير معقولة، أما الحج فهو سفر إلى موضع معين على كيفيات مخصوصة، فالحكمة في كيفيات هذه العبادات غير معقولة وأصلها غير معلومة.
إذا عرفت هذا فنقول : قال المحققون إن الإتيان بهذا النوع من العبادة أدل على كمال العبودية والخضوع والانقياد من الإتيان بالنوع الأول، وذلك لأن الآتي بالنوع الأول يحتمل أنه إنما أتى به لما عرف بعقله من وجوه المنافع فيه، أما الآتي بالنوع الثاني فإنه لا يأتي به إلا لمجرد الانقياد والطاعة والعبودية، فلأجل هذا المعنى اشتمل الأمر بالحج في هذه الآية على أنواع كثيرة من التوكيد
أحدها : قوله ﴿وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت﴾ والمعنى أنه سبحانه لكونه إلها ألزم عبيده هذه الطاعة فيجب الانقياد سواء عرفوا وجه الحكمة فيها أو لم يعرفوا
وثانيها : أنه ذكر ﴿الناس﴾ ثم أبدل منه ﴿مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ وفيه ضربان من التأكيد، أما أولاً فلأن الإبدال تثنية للمراد وتكرير، وذلك يدل على شدة العناية، وأما ثانياً فلأنه أجمل أولاً وفصل ثانياً وذلك يدل على شدة الاهتمام