والذي يدقق النظر في هذه الظاهرة الفريدة في تاريخ البشرية، يتجلى له جانب من حكمة الله في اختيار "الأميين" في الجزيرة العربية، في ذلك الحين، لهذه الرسالة العظيمة.. حيث يمثلون سفح الجاهلية الكاملة، بكل مقوماتها. الاعتقادية والتصورية، والعقلية والفكرية، والأخلاقية والاجتماعية، والاقتصادية والسياسية، ليعرف فيهم أثر هذا المنهج، وليتبين فيهم كيف تتم المعجزة الخارقة، التي لا يملك أن يأتي بها منهج آخر، في كل ما عرفت الأرض من مناهج، وليرتسم فيهم خط هذا المنهج، بكل مراحله - من السفح إلى القمة - وبكل ظواهره، وبكل تجاربه ; ولترى البشرية - في عمرها كله - أين تجد المنهج الذي يأخذ بيدها إلى القمة السامقة، أيا كان موقفها في المرتقى الصاعد. سواء كانت في درجة من درجاته، أم كانت في سفحة الذي التقط منه "الأميين" !
إن هذا المنهج ثابت في أصوله ومقوماته، لأنه يتعامل مع "الإنسان". وللإنسان كينونة ثابتة، فهو لا يتبدل منها كينونة أخرى. وكل التحورات والتطورات التي تلابس حياته لا تغير من طبيعته، ولا تبدل من كينونته، ولا تحوله خلقا آخر. إنما هي تغيرات وتطورات سطحية، كالأمواج في الخضم، لا تغير من طبيعته المائية، بل لا تؤثر في تياراته التحتية الدائمة، المحكومة بعوامل طبيعية ثابتة !
ومن ثم تواجه النصوص القرآنية الثابتة، تلك الكينونة البشرية الثابتة. ولأنها من صنع المصدر الذي صنع الإنسان، فإنها تواجه حياته بظروفها المتغيرة، وأطوارها المتجددة، بنفس المرونة التي يواجه بها "الإنسان" ظروف الحياة المتغيرة، وأطوارها المتجددة، وهو محافظ على مقوماته الأساسية.. مقومات الإنسان..


الصفحة التالية
Icon