قوله تعالى :﴿لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس﴾ الجملة خبر الابتداء وهو "الَّذِينَ".
والمعنى من قبورهم ؛ قاله ابن عباس ومجاهد وابن جُبير وقَتادة والربيع والضّحاك والسُّدِّي وابن زيد.
وقال بعضهم : يجعل معه شيطان يخنقه.
وقالوا كلهم : يُبعث كالمجنون عقوبةً له وتمقِيتاً عند جميع أهل المَحْشَر.
ويُقوِّي هذا التأويل المُجْمَع عليه أن في قراءة ابن مسعود "لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم".
قال ابن عطية : وأما ألفاظ الآية فكانت تحتمل تشبيه حال القائم بِحرْص وجَشَع إلى تجارة الدنيا بقيام المجنون، لأن الطمع والرغبة تستفِزّه حتى تضطرب أعضاؤه ؛ وهذا كما تقول لمسرع في مشيه يخلط في هيئة حركاته إما مِن فزع أو غيره : قد جُنّ هذا! وقد شبّه الأَعْشَى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله :
وتُصبِح عن غِبّ السُّرَى وكأنّما...
أَلَمَّ بها من طائِف الجِنّ أوْلَقُ
وقال آخر :
لَعَمْرُك بي من حُبِّ أسماءَ أَوْلَقُ...
لكن ما جاءت به قراءة ابن مسعود وتظاهرت به أقوال المفسرين يضعّف هذا التأويل.
و "يَتَخَبَّطُهُ" يتفعّله من خَبَط يخبِط ؛ كما تقول : تملّكه وتعبّده.
فجعل الله هذه العلامة لأكَلَة الربا ؛ وذلك أنه أرباه في بطونهم فأثقلهم، فهم إذا خرجوا من قبورهم يقومون ويسقطون.
ويقال : إنهم يبعثون يوم القيامة قد انتفخت بطونهم كالحُبَالَى، وكلما قاموا سقطوا والناس يمشون عليهم.
وقال بعض العلماء : إنما ذلك شِعارٌ لهم يُعرفون به يوم القيامة ثم العذاب من وراء ذلك ؛ كما أن الغَالَّ يجيء بما غَلَّ يوم القيامة بشهرة يشهّر بها ثم العذاب من وراء ذلك.
وقال تعالى :"يَأْكُلُونَ" والمراد يكسبون الربا ويفعلونه.
وإنما خَصّ الأكل بالذِّكر لأنه أقوى مقاصد الإنسان في المال ؛ ولأنه دالّ عى الجشع وهو أشدّ الحرص ؛ يقال : رجل جَشِع بيّن الجَشَع وقوم جَشِعون ؛ قاله في المُجْمَل.
فأُقيم هذا البعض من توابع الكسب مقام الكسب كلّه ؛ فاللباس والسكنى والادّخار والإنفاق على العيال داخل في قوله :﴿الذين يَأْكُلُونَ﴾. أ هـ ﴿تفسير القرطبى حـ ٣ صـ ٣٥٤ ـ﴾