ورابعا : أن التشبيه أعني قوله :﴿الذي يتخبطه الشيطان من المس﴾ لا يخلو عن إشعار بجواز تحقق ذلك في مورد الجنون في الجملة، فإن الآية وإن لم تدل على أن كل جنون هو من مس الشيطان لكنها لا تخلو عن إشعار بأن من الجنون ما هو بمس الشيطان، وكذلك الآية وإن لم تدل على أن هذا المس من فعل إبليس نفسه فإن الشيطان بمعنى الشرير، يطلق على إبليس وعلى شرار الجن وشرار الإنس، وإبليس من الجن، فالمتيقن من إشعار الآية أن للجن شأنا في بعض الممسوسين إن لم يكن في كلهم.
وما ذكره بعض المفسرين أن هذا التشبيه من قبيل المجاراة مع عامة الناس في بعض اعتقاداتهم الفاسدة حيث كان اعتقادهم بتصرف الجن في المجانين، ولا ضير في ذلك لأنه مجرد تشبيه خال عن الحكم حتى يكون خطأ غير مطابق للواقع، فحقيقة معنى الآية، أن هؤلاء الآكلين للربا حالهم حال المجنون الذي يتخبطه الشيطان من المس، وأما كون الجنون مستندا إلى مس الشيطان فأمر غير ممكن لأن الله سبحانه أعدل من أن يسلط الشيطان على عقل عبده أو على عبده المؤمن.
ففيه : أنه تعالى أجل من أن يستند في كلامه إلى الباطل ولغو القول بأي نحو كان من الاستناد إلا مع بيان بطلانه ورده على قائله، وقد قال تعالى : في وصف كلامه ﴿كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه﴾ فصلت - ٤٢، وقال تعالى :" إنه لقول فصل وما هو بالهزل " الطارق - ١٤.
وأما أن استناد الجنون إلى تصرف الشيطان بإذهاب العقل ينافي عدله تعالى، ففيه أن الإشكال بعينه مقلوب عليهم في إسنادهم ذهاب العقل إلى الأسباب الطبيعية، فإنها أيضا مستنده بالآخرة إلى الله تعالى مع إذهابها العقل.
على أنه في الحقيقة ليس في ذهاب العقل بإذهاب الله إياه إشكال.
لأن التكليف يرتفع حينئذ بارتفاع الموضوع، وإنما الإشكال في أن ينحرف الإدراك العقلي عن مجرى الحق وسنن الاستقامة مع بقاء موضوع العقل على حاله، كان يشاهد الإنسان العاقل