ولولا استتار كنه جلالة كلامه بكسوة الحروف لما ثبت لسماع الكلام عرش ولا ثرى ولتلاشى ما بينهما من عظمة سلطانه وسبحات نوره، ولولا تثبيت الله عز وجل لموسى عليه السلام لما أطاق لسماع كلامه كما لم يطق الجبل مبادي تجليه حيث صار دكا ولا يمكن تفهيم عظمة الكلام إلا بأمثلة على حد فهم الخلق
ولهذا عبر بعض العارفين عنه فقال : إن كل حرف من كلام الله عز وجل في اللوح المحفوظ أعظم من جبل قاف وإن الملائكة ـ عليهم السلام ـ لو اجتمعت على الحرف الواحد أن يقلوه ما أطاقوه حتى يأتي إسرافيل ـ عليه السلام ـ وهو ملك اللوح فيرفعه فيقله بإذن الله ـ عز وجل ـ ورحمته لا بقوته وطاقته ولكن الله عز وجل طوقه ذلك واستعمله به ولقد تألق بعض الحكماء في التعبير عن وجه اللطف في إيصال معاني الكلام مع علو درجته إلى فهم الإنسان وتثبيته مع قصور رتبته وضرب له مثلا لم يقصر
فيه وذلك أنه دعا بعض الملوك حكيم إلى شريعة الأنبياء ـ عليهم السلام ـ فسأله الملك عن أمور فأجاب بما لا يحتمله فهمه فقال الملك أرأيت ما تأتي به الأنبياء إذا ادعت أنه ليس بكلام الناس وأنه كلام الله ـ عز وجل ـ فكيف يطيق الناس حمله ؟ فقال الحكيم : إنا رأينا الناس لما أرادوا أن يفهموا بعض الدواب والطير ما يريدون من تقديمها وتأخيرها وإقبالها وإدبارها ورأوا الدواب يقصر تمييزها عن فهم كلامهم الصادر عن أنوار عقولهم مع حسنه وتزيينه وبديع نظمه، فنزلوا إلى درجة تمييز البهائم وأوصلوا مقاصدهم إلى بواطن البهائم بأصوات يضعونها لائقة بهم من النقر والصفير والأصوات القريبة من أصواتها لكي يطيقوا حملها، وكذلك الناس يعجزون عن حمل كلام الله عز وجل بكنهه وكمال صفاته فصاروا بما تراجعوا بينهم من الأصوات التي سمعوا بها الحكمة كصوت النقر
(١/١٦)