يقين المؤمنين في الأمم السابقة
يقول العلماء: وقريباً من ذلك قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ [فصلت: ٣٠]، أي: استمروا على مقالتهم واعتقادهم هذا إلى النهاية، كما جاء عن الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال: (قالوا ربنا الله ثم استقاموا على هذا القول قولاً وفعلاً إلى أن ماتوا، ولم تتغير مقالتهم، ولم تتغير استقامتهم في منهجهم الذي سلكوه).
وإذا نظرنا إلى عنصر اليقين مع المؤمن: نجد من أول الدنيا وفي الأديان جميعاً أن اليقين هو عنصر النجاح والثبات، ونجد الشدائد التي وقعت بالأمم مهما كانت يكون علاجها باليقين، كما وقع مثلاً في قضية أصحاب الأخدود؛ حينما أوقد ملكهم النار، وعرض عليهم الرجوع عن الإيمان، فامتنعوا، فقال: من امتنع سألقيه في تلك الأخاديد الموقدة، فما ارتابوا، ولا ترددوا، وقضية الطفل الرضيع، لما عُرِضت أمه على النار أو أن ترجع عن دينها فأبت، ولكنها رأت طفلها فأشفقت عليه أن تلقي بنفسها وهو معها في النار، لم تفكر في نفسها ولكن طفلها ما ذنبه؛ لأنه لم يبلغ مبلغ الإيمان، ولكن الله أنطق هذا الطفل وهو ثالث ثلاثة نطقوا في المهد، قال: قعي في النار يا أماه ولا تتقاعسي فإنك على الحق، فهذه الأم على هذا الوضع ألقت بنفسها في النار وهي على يقين من أنها على الحق، فما ترددت ولا رجعت.
ومن قبل ذلك أيضاً سحرة فرعون: جاءوا مناصرين للباطل ويعرضون على فرعون: ﴿أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ﴾ [الشعراء: ٤١-٤٢]، فجاءوا أعواناً للباطل، مشمرين ليدحضوا رسول الله وبما جاءهم به من الآيات، ولكنهم لما عاينوا الحق وهم أعرف بفن السحر، وعلموا أن ما جاء به موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ليس من باب سحرهم، وإنما هو فوق ما يظنه العقل أو يتداركه، حين ذلك آمنوا بالله سبحانه وتعالى.
ولما هددهم فرعون قال: ﴿لأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ [طه: ٧١]، سبحان الله! النخل أشد ما يكون خشونة، تلمسه بيدك تتألم، وهو يريد أن يصلبهم على جذوع النخل، قالوا: ﴿فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [طه: ٧٢]، استهانوا بتعذيب فرعون بعد أن كانوا نصراء له وانقلبوا عليه ووقفوا ضده يقيناً بالله؛ لما وجدوا الآية الكبرى مع موسى عليه السلام.
ولهذا يقولون في قصتهم: كان كبير السحرة في ذلك الوقت قد هرم ولم يستطع أن يحضر ذلك النادي، فلما قيل له ذلك؛ وذكروا له إيمان السحرة وعابوهم، قال: أخبروني عن تلك الحية التي ابتلعت الحبال والعصي، أبقيت على حجمها الأول قبل أن تلتقمها، أم أنها انتفخت وكبرت بعد أن التقمتها؟ قالوا له: لم يتغير حجمها وكانت على ما هي عليه، قال: إذن هذه آية وليست سحراً.
ولهذا يقول والدنا الشيخ الأمين: هذا علم قد يكون حراماً، ولكنه نفع السحرة بأن عرفوا بأن حقيقة ما جاء به نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام ليس من نوع سحرهم، فآمنوا؛ لعلمهم بحقيقة السحر.
وهكذا هؤلاء يهددهم فرعون الطاغية بأنه سوف يصلبهم وسيقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وكل أنواع التهديد عرضه عليهم، ومع ذلك قالوا: ﴿آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: ١٢١] قالوا: ﴿فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [طه: ٧٢]، بخلاف الآخرة ﴿لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا﴾ [فاطر: ٣٦]، لا يخرجون من النار ولا يموتون فيها.
يعني: عذاب دائم مستمر.
إذاً: هؤلاء دخل اليقين إلى قلوبهم، حتى مع مجيء الشدائد عليهم لم يرتابوا فيما آمنوا به.