اليقين في كتاب الله
نجد اليقين كما أسلفنا من أول كتاب الله إلى آخرة وما بين الطرفين عمل بمقتضى ذلك اليقين، أشرنا إلى الطرف الأول ﴿وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [البقرة: ٤]، وافتح المصحف وقلب أوراقه إلى أن تأتي إلى الصفحة الأخيرة، ماذا تجد في المصحف الكريم؟ المعوذتين، تجد الأولى: بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ [الفلق: ١]، صفة عامة، ولكن (فلق) هنا تأتي على جميع الخلق، فلق الرحم عن الجنين، فلق الحبة عن النبات، فلق الليل عن الفجر، فلق وفلق إلى كل ما تتصور في مخيلتك.
﴿مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ [الفلق: ٢-٥]، فجيء بصفة واحدة أمام أربعة مضار ومفاسد يتعوذ منها.
الأولى: العامة: ﴿مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ [الفلق: ٢]، حتى قال ابن عباس: المعاصي مما خلق، كأنك تستعيذ بالله أن تقع في معصية، (وغاسق إذا وقب) قال: القمر إذا غاب؛ لأنه وقت اتخاذ السحرة السحر لظلام الليل، (نفاثات) أي: سحرة، (حاسد إذا حسد) وكل ذلك من أضرار البدن المادية.
تجد السورة الأخيرة التي ختم بها المصحف الشريف: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ﴾ [الناس: ١-٣] هناك: (رب الفلق * من شر)، وذكر أربع شرور يستعاذ منها، وهنا ثلاث صفات (رب ملك إله) ويقول العلماء: هذه صفات العظمة لله سبحانه؛ لأنها جامعة، الرب رب العالمين، والربوبية قاعدة توحيد الألوهية؛ لأنه يُستدل بفعل الرب لعباده على استحقاقه لإفراده بالعبادة، ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ [قريش: ٣-٤]، اعبدوه مقابل ما أطعمكم وآمنكم، وهكذا كثير من نصوص القرآن الكريم تسير على ذلك النمط.
فنجد هنا (رب الناس)، والرب هو الخالق المربي، أي: خلق الخلق ورباهم على نعمه ورزقهم.
(ملك الناس)، والملك هنا كامل؛ لأنه ملك قدرة وسلطان، لا ملك سياسة وإدارة كملوك الأرض وملوك الدنيا؛ لأن هنا الملك بالفعل والقدرة والسلطان، ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ [الشورى: ٤٩].
هذه حقيقة الملك، ولا تكون إلا لله، يهب أو يجعل.
أي: إرادة فعالة بقدرة قادرة.
﴿مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ﴾ [الناس: ٢-٣] أي: معبودهم ومألوههم، وهذه الثلاث كلها صفات العظمة لرب العالمين.
تأتي تلك الصفات الثلاث أمام شر واحد، والمستعاذ منه شيء واحد، بينما سورة الفلق المستعاذ به صفة واحدة والمستعاذ منه أربع صفات، أربع مفاسد تستعيذ منها بصفة واحدة لله، وهنا ثلاث صفات العظمة لله تستعيذ بها جميعها من خصلة واحدة وهي أخطر ما تكون على الإنسان في دنياه وآخرته.
﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ﴾ [الناس: ٤] ؛ لأنه بالوسوسة في الصدر يكون الشك، وبالشك يكون الريب، وإذا شك الإنسان وارتاب في شيء لم يتم مشروعاً في حياته قط، تريد أن تبني بيتاً لكن ترددت: فيما بعد أبني هنا لا أعمل كذا، وهكذا ما دمت بين كفتي الشك والتردد ولم تستقر كفة اليقين عندك، وهكذا في أمور الدنيا والدين.
﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾ [الناس: ٤-٥] أي: بما يبعدهم عن الله سبحانه، أو يضعف يقينهم فيما عند الله.
ولهذا دليل لما جاء في أحداث التبشير، ومنذ حوالي أربعين سنة كتب الدكتور عمر فروخ ممن يعالج هذه القضية -التبشير والإسلام- وعقد مؤتمر المبشرين في بلد من البلاد العربية، واجتمع المستشرقون جميعاً في المنطقة، ثم عابوا على رئيس المؤتمر بأن جهودنا ضائعة، قال: لماذا؟ قالوا: لأننا زهاء أربعين سنة -هم يقولون ذلك من أربعين سنة، يعني: من ثمانين سنة من الآن- لم ننصر مسلماً، ماذا قال رئيس المؤتمر ورئيس المبشرين؟!! قال: لا، لا تتعجلوا، نحن لا نريد أن ننصر مسلماً، ولكن إذا استطعتم في هذه المدة أن تشككوا المسلمين في دينهم فقد نجحتم.
وهكذا إن العالم المستعمر وأعداء الإسلام ما استطاعوا للمسلمين بقوة السلاح والحديد والنار، فأثاروا الشكوك والقضايا الشائكة التي تتردد بين العقل والمنطق والدين، فتثير الشكوك في نفوس الناشئة، أو في نفوس ضعاف العقول، أو من لم يتمكن في دينه وعقله ويقينه، فإذا ما وقع الشاب أو المسلم في الشك والحيرة بين ما يورده عليه هؤلاء وبين ما يأتي به الإسلام ماذا يكون الحال؟ ومن أمثلة ما يثيرون: يقولون: سلوا محمداً، الشاة التي ماتت من الذي أماتها؟ سيقول لكم: الله، الشاة التي نذبحها من الذي أماتها، تقولون: نحن، فقولوا له: ما أماته الله خير أم ما أمتناه نحن؟ إذاً: الذي نميته نحن نأكله والذي يميته ربه الذي خلقه محرم لا نأكله؟ انظروا إلى هذه الشبهة! فجاءوا وسألوا رسول الله: الشاة الميتة من الذي أماتها؟ قال: الله، قالوا: الشاة التي نذبحها من الذي أماتها؟ قال: أنتم ذبحتموها، قالوا: ما ذبحناه نحن خير مما أماته الله؟ قضية تشكيك.
ثم يأتون الآن وفي الوقت الحاضر عن طريق المرأة، ويقولون: نصف المجتمع معطل، وهكذا ينادون بضرورة عمل المرأة، ونسوا أن عملها الحقيقي في بيتها، ولو أنها خرجت إلى عملها، عطللت وظيفتها الأساسية، لما وجد هذا وما وجد ذاك، وإذا ما انقطعت لتربية النشء وأرسلته للمجتمع مكتمل القوة بدنياً وعقلياً وتحت رعاية الأم وحنانها لكان خيراً من إنتاج المجتمعات الأخرى.
إذاً: جاءوا بالشبهة، قالوا: هذه إنسان، وهذا إنسان، لماذا يكون ميراثها نصف ميراث الرجل، هذه زوجة وهذا زوج، لماذا يكون الطلاق بيد الرجل ولا يكون بيد المرأة؟ هذه زوجة وهذا زوج لماذا يكون للرجل أربع نسوة والمرأة ليس لها إلا الزوج؟ لماذا يستبيح الرجل الإماء بملك اليمين إلى ما شاء من عدد، والمرأة لا تستبيح عبيدها الذين ملكتهم بيمينها؟ ويشككون هؤلاء أنصاف العقلاء؛ ولكن لو رجعوا إلى منطق العقل وكما رجع البعض منهم الآن.
ويعلم البعض أن هناك بعثة جاءت من الفاتيكان إلى هذه المملكة في زمن الشيخ محمد الحركان -رحمة الله تعالى علينا وعليه، حينما كان وزيراً للعدل، وسافر أيضاً رداً للزيارة- لكي يبحثوا في يبحثون نظام الإسلام في الطلاق والنكاح وعلاقة الرجل بالمرأة؛ لأنهم ضجروا وعجزوا عن معالجة قضايا المرأة في بلادهم، ورأوا أن منهج الإسلام في البلاد الإسلامية هو المنهج الأمثل، فجاءوا يدرسون هذا فقهياً أو قانونياً على ما يرونه.
وقد حضرنا مؤتمراً مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحضره من العالم قرابة أربعين دولة، منها: إنجلترا وأمريكا وإيطاليا من الفاتيكان، ومندوبٌ بلا تسمية، فلما سمع مندوبو بعض تلك الدول مناقشة إقامة الحدود وحفظ الإسلام للجواهر الست: · الأديان.
· والأبدان.
· والعقول.
· والأعراض.
· والأنساب.
· والأموال.
بشروطها والتحفظ فيها ونتائج ذلك، قام وأعلن: ما كان الغرب ليعلم أن الإسلام فيه هذا النظام الدقيق الشامل، وعهد عليَّ وأمانة لحضوري: أن أنقل هذا بعيد مرجعي إلى هناك، وأن أوصي بالأخذ به.
فهذا -أيها الإخوة- حقيقة العقل حينما يباشر الإنسان تعاليم الإسلام عملياً.
ولو أردنا التنبيه على فساد مقالاتهم: يقولون في الطلاق: لماذا لا تطلِّق المرأة؟ وهي ماذا تخسر؟ الرجل هو الذي دفع المال، وقام على حمايتها وإيوائها، والإنفاق عليها وعلى عيالها، والرجل أشد تحملاً وأضبط لنفسه عند الغضب، أما المرأة فلأتفه الأسباب تثور حماقتها، ولأتفه الأسباب تنسى الماضي؛ فلو كان الطلاق بيدها لطلقت الزوج عشرين مرة في اليوم الواحد.
إذاً: يبقى الأمر بما فضل الله بعضهم على بعض، ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾ [النساء: ٣٤]، وبين سبحانه سبب القوامة، فقال: ﴿بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا﴾ [النساء: ٣٤].
ونأتي إلى الميراث: تريدون أن المرأة مثل الرجل في الميراث؟ فلو أن الرجل اقتسم مع المرأة المال بنظرهم وأخذ الولد ألفاً والبنت ألفاً، بعد لحظات البنت ستتزوج، ونفقتها ستكون على زوجها، والألف يذهب إلى الصندوق، أما الولد فسيتزوج والألف ستكون لمن؟ كانت لواحد ثم أصبحت لاثنين، الاثنان بعد سنة صاروا ثلاثة وبعد سنة صاروا أربعة، وهكذا الأولاد في زيادة، فالولد يتحمل مسئولية زوجة ستأتي أو هي موجودة بالفعل، وأولاد سيأتون، ويصبح رب أسرة.
إذاً: لو كان له تسعة أعشار الميراث لم يكن ذلك كثيراً، وهذا فضل الله كما قسم سبحانه وتعالى.
إذاً: كيف ترون أو تدعون أن المرأة هضمت في الإسلام، بل هي أُعطيت فوق حاجتها أو فوق حقها.
والجواب على بقية الشبه التي ينادون بها بالعمل وغير ذلك أن يقال: لقد أصبحوا الآن ينادون بلزوم المرأة بيتها، وقد قرأت منذ ما لا يقل عن ثلاثين سنة مقالاً نشرته مجلة: (آخر ساعة) بأن مدير مكتب العمل دخل عليه صحفي فلم يجد في مكتبه فتاةً واحدة من ضمن عماله، فسأله: أنت تورد للدوائر الحكومية موظفين وموظفات، ولم أرَ في مكتبك أية فتاة! فلماذا؟ قال: إن الفتاة مهما كانت تأتي إلى العمل بقوة وحماس بشعور النقص فيها لتغطي نقصها وتثبت جدارتها، فإذا ما أثبتت جدارتها نوعاً ما بدأ رد الفعل وحينها تتراجع في التناقص عن الإنتاج، فضلاًَ عما يعتريها مما خلقت له من دورة شهرية تُثير أعصابها وتقلل تحملاتها، وتغير في أخلاقها، وإذا ما كان الحمل فنصف عمرها يضيع في مؤثرات الحمل، من مبدأ الوحم إلى الولادة إلى الرضاع، فأين إنتاجها إذاً؟ ولذا يقول: أنا لا أقبل في مكتبي أية فتاة، أما الشاب فإن بدأ في الإنتاج ضعيفاً وأقل من الفتاة فهو