اليقين والإيمان يتمثل في عبد الله بن حذافة رضي الله عنه
نأتي إلى صورة يعجز إنسان أن يُقْدِرها قَدَرها إلا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في زمنه عبد الله بن حذافة كان في مواجهة جيش الروم، فأخذ أسيراً ومعه ثمانون رجلاً، فذكروا لملك الروم عن عبد الله ما لم يذكروا عن بقية الأسارى، فاستدعاه، فقال: هل لك أن تتنصَّر وتترك دينك وأشاطرك ملكي؟ قال: والله لو ضممتَ إلى ملكك ملك العرب لن أترك ديني لحظةً واحدة، قال: وأزوجك ابنتي، قال: وإن كان، قال: أقتلك، قال: لا باس بذلك فهو حق لك، وبيدك أن تعفو أو تقتل، ثم كان من شأنه أن أتى بقدر زيت وأوقد عليه النار، ودعا أسيراً من الأسارى أمامه، وعرض عليه أن يتنصر فامتنع فألقاه في ذلك القدر فذابت عظامه، قال: أتتنصر وتأخذ نصف الملك وتتزوج ابنتي أو ألقيك في هذا الزيت؟ قال: لا أرجع عن ديني ولا لحظةً واحدة، قال: اذهبوا به وألقوه في القدر، فلما وصل هناك بكى، فرجعوا به وقالوا: لقد أسِف ورجع وبكى، قال: أقبلت؟ قال: لا والله، قال: وما بالك تبكي؟ قال: أبكي؛ لأن لي نفساً واحدةً، وددتُ لو أن لي أنفساً أو نفوساً بعدد شعر جلدي كل نفس تلقى مثل هذا المصير في سبيل الله، فعجب الملك من أمره، قال: ردوه واحبسوه وامنعوا عنه الطعام والشراب، ثم قدموا إليه لحم الخنزير والخمر، ليأكل عند الاضطرار والجوع، فما أكل ولا شرب أربعة أيام، فقالوا للملك: إنه لم يأكل ولم يشرب، ومالت عنقه ويكاد أن يموت، فاستخرجوه، قال له: لماذا لم تأكل؟ قال: والله لقد علم الملك أن هذا الذي قدمتموه لي محرم في الإسلام، وأنه قد أبيح لي عند الضرورة وكان من الممكن أن آكل وأشرب بالرخصة ولكني كرهت أن تشمت في الإسلام بأن مسلماً أكل الخنزير وشرب الخمر وهما حرام عليه، فآثرتُ الموت على ذلك.
قال: أتقبِّل رأسي وأفرج عنك؟ قال: وعن جميع الأسارى معي؟ قال: وعن جميع الأسارى معك.
يقول عبد الله: فقلت في نفسي: كافر أقبل رأسه وأعتق نفسي وثمانين مسلماً من تحت يده فلا مانع، وقبَّلت رأسه، فأعتقه وأعتق الثمانين معه، وأجزل له العطية والهدايا.
نقف هنا لحظة: ملك كافر عجز عن رجل مسلم بجميع أنواع صنوف الإغراء والتهديد.
أي إغراء بعد نصف الملك والزواج بابنة الملك؟ وأي تهديد وقد سبق أيضاً أن قال: أصلبك، وعلقه على خشبة الصلب وقال للرماة: ارموا بجواره ولا تصيبوه، فكانت السهام تقع قريباً منه ولم تصبه، قال: أنزلوه.
وما رهب ذلك كله.
ويرى الأسير تذوب عظامه في الزيت ولا يرجع، ويظل على يقينه بالله، ولا يرجع عن دينه لحظة.
نقول: إن الملك فعلاً قدَّر العظمة في هذا الرجل بصرف النظر عن كونه مسلماً أو غير مسلم، إنسان يعتز بدينه ويتمسك بمبادئه؛ لا تغريه المناظر ولا المادة ولا تلينه التهديدات.
إذاً: فهو شخصية فذة أكبرها الملك في نفسه واكتفى منه أن يقبل رأسه، وتقبيل رأس الملك ليس بالأمر الهين، لو أن شخصاً عادياً طلب من الحرس أن يصل إلى الملك ليقبل رأسه ما سمح له الملك بذلك؛ لأنه شخص عادي، وتقبيل رأسه من عاديٍّ أمر عادي؛ لكن هذا شخص من نوع خاص، فكونه مع مكانته وقوة نفسه وعظمة شخصيته يتنازل ويقبل رأس الملك اعتبر الملك أن هذا انتصاراً عليه.
فلما قدم المدينة ومعه الأسارى سأله عمر: ماذا فعلت؟ فأخبره، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: حق على كل مسلم أن يقبل رأس ابن حذافة، وقام عمر وقبل رأسه أمام الناس.
تلك هي روح عظيمة ونفس كريمة ويقين ثابت، كل هذه المغريات ما غيَّرت في مبادئه، وكل هذه التهديدات ما أثرت في نفسه شيء، وآثر كل تلك الشدائد على البقاء على دينه.
إذاً: الريب واليقين هما الحد الفاصل بين الإيمان والكفر، والإيمان حقيقةً: ما وقر في القلب وصدَّقه العمل.
ومعنا في خبر هرقل خير شاهد، إذ لما ظهر النبي ﷺ وجاء أبو سفيان بتجارة إلى الشام وقال: أيكم أقرب نسباً لهذا الرجل الذي ظهر فيكم يدَّعي النبوة؟ قالوا له: أبو سفيان، ثم أجلسهم وراءه وقال: إني سائلك، إن صدق فصدِّقوه وإن كذب فكذبوه، ثم سأله عدة أسئلة، من ضمنها؟ أيرجع عن دينه من دخل فيه؟ قال: لا.
فقال: هذا فعلاً إذا خالط الإيمان بشاشة القلوب، فإنه لا يرجع عن ذلك قط، يذوق حلاوة الإيمان، وإذا خالطت بشاشة الإيمان قلب العبد فلا يمكن أن يرتد عن هذا الدين ولا يتخلى عن تلك الحلاوة والبشاشة.
إذاً: المنافق لم تخالط بشاشة الإيمان قلبه، كما قال تعالى في الأعراب: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: ١٤] ؛ لأنكم ما وصلتم بعد إلى هذا الحد.


الصفحة التالية
Icon