تفسير قوله تعالى: (قل أتعلمون الله بدينكم... )
قال الله: ﴿قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحجرات: ١٦].
هذا تعقيب على مقالة الأعراب، ﴿آمَنَّا﴾ [الحجرات: ١٤]، والله سبحانه وتعالى قال: قل لهم يا محمد: ﴿لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات: ١٤]، ثم قل لهم: أتعلِّمون الله بحقيقة دينكم وتدعون أنكم آمنتم؟! هل هذا يروج عند الله؟! ﴿أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ﴾ [الحجرات: ١٦] : والله لا يخفى عليه شيء؟ ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ [الحجرات: ١٦]، ومن ضمن ذلك دينكم لا يخفى عليه، ما دام يعلم ما في السموات وما في الأرض على سبيل العموم والشمول.
إذاً: فهو يعلم حقيقة دينكم، فتعلِّمون الله بشيء غير موجود؛ لأن الله يعلمه أنه غير موجود، وهذا رد على ادعائهم وبيان أن ادعاء غير الواقع لا يخفى على الله سبحانه وتعالى.
﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحجرات: ١٧-١٨].
بعدما بين موقف الأعراب وأظهر حقيقة حالتهم جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن باب التسلية ومن باب الوقائع: هؤلاء جاءوا ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا﴾ [الحجرات: ١٧]، وأنت لا تتحمل منة أحد، وما لهم حق أن يمنوا عليك.
دفاعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمن هو: ذكر أيادي الشخص على شخص آخر؛ لأن ذكر ذلك فيه ثقل على النفس.
وبعض العلماء يقول: المن: نوع من الوزن أكثر من القنطار، يقولون: قنطارٌ ومَنٌّ، والمن ربما يوجد في الشام وربما يوجد في نجد، فالمن نوع من الوزن أكثر من القنطار، (يَمُنُّونَ)، يعني: يثقلون عليك بهذا الوزن الثقيل، وذلك لما جاء بعض الأعراب الذين تحدَّث عنهم من بني أسد فقالوا: (يا محمد! جئناك مسالمين ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان -يعني: يمنون عليه أن أسلموا بدون قتال ولا كلفة من المسلمين- قال لهم: لا).
وبعضهم يقول: المن ليس من الثقل وإن كان فيه نوعاً منه؛ لكنه العطاء دون أن تنتظر ممن أعطيت مكافأة ولا مجازاة ترفعاً عليه، فهنا لما قالوا: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا﴾ [الحجرات: ١٧]، قال: لا جميل لهم، أو لا يد لهم عليك في إيمانهم؛ لأن إيمانهم لهم إن كانوا فعلاً آمنوا.
﴿قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ﴾ [الحجرات: ١٧]، لماذا؟ لأن الرسول ﷺ يتمنى أن العالم كله قد أسلم، ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا﴾ [الكهف: ٦] ؛ ولكن لا، هوِّن على نفسك، ما كلفناك مثل هذا.
وهنا ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ﴾ [الحجرات: ١٧] : إن كانت هناك فعلاً منة على أحد من الأطراف أنا أو أنتم فلا، المنة لله عليكم.
(أَنْ) وهذه للتعليل، ﴿هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ﴾ [الحجرات: ١٧]، يعني: وهل هم آمنوا حتى هداهم للإيمان؟ قالوا: هداهم، أي: الهدى الظاهر؛ لأن الهدى قسمان: * هدى بمعنى البيان والإرشاد.
* وهدى توفيق وإيمان يستقر في القلب، ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص: ٥٦]، يعني: لا توجد الهداية القلبية اليقينية في القلب؛ ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [القصص: ٥٦] ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ﴾ [فصلت: ١٧] أي: بينا لهم ﴿فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى﴾ [فصلت: ١٧] أي: الضلال ﴿عَلَى الْهُدَى﴾ [فصلت: ١٧].
إذاً: ﴿بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الحجرات: ١٧] في دعواكم، وهذا يُشعر بعدم الصدق.
ويبين لنا منة الله على العباد: ما جاء في غزوة حنين، لما رجع النبي ﷺ وقسم الغنائم ولم يعط الأنصار من غنائم حنين شيئاً؛ مع أنه أعطى بعض المؤلفة قلوبهم من مكة (١٠٠٠) شاة، و (١٠٠) بعير، والأنصار الذين جاءوا معه من المدينة لم يعط أي واحد منهم شاة واحدة، فقال بعضهم: لقي أهله فآثرهم علينا ولم يعطنا شيئاً، فبلغت المقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لـ سعد: اجمع لي الأنصار ولا تجمع معهم أحداً، فجمعهم إليه ليلاً وأتاهم، فقال: (هل فيكم من غيركم؟ قالوا: فلان خالنا، قال: خال القوم منهم، ثم خطبهم وقال: يا معشر الأنصار! ما مقالة بلغتني عنكم؟ قلتم: كذا وكذا، ثم قال: أتعتبون عليَّ في لعاعة من الدنيا أتألف بها قلوب أقوام؟! ثم ذكر: ألم آتكم ضُلالاً فهداكم الله بي؟! قالوا: المنة لله ولرسوله.
ألم أجدكم عالةً فأغناكم الله بي؟! قالوا: المنة لله ولرسوله -هذا محل الشاهد، أن الله منَّ علينا بهذا- وذكر أشياء ثم قال: ما لكم لا تجيبونني؟! قالوا: وماذا نقول؟ قال:-وهذا الإنصاف-: تقولون: كفر بك قومك وآمنا بك، طردك قومك وآويناك، وو إلى آخره.
قالوا: الله ورسوله أمنُّ، أو الفضل لله والمنُّ، ثم قال: يا معشر الأنصار! والله لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، الناس دثاري، والأنصار شعاري) الدثار: ما يُتَدثَّر به، ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ [المدثر: ١] والشعار: ما خالط البدن.
الناس دثاري: الدثار: اللباس الخارجي.
(والأنصار شعاري) : أي اللباسين أقرب للإنسان؟ الشعار.
ثم ذكر: (والله لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، والله لو سلك الناس شِعباً أو وادياً وسلك الأنصار شِعباً أو وادياً لسلكت شعب الأنصار وواديهم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يرجع الناس إلى ديارهم بالشاة والبعير، وترجعون إلى رحالكم برسول الله؟ قالوا: رضينا، وبكوا حتى اخضلت لحاهم).
والشاهد في هذه الحادثة: (ألم آتكم كذا وكذا، فيقولون: المنة لله).
أي: لأن الله هو الذي امتن علينا بمجيئك إلينا، ومن علينا بما حصل لنا بهذا المجيء المبارك، والله أعلم.
إذاً: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ﴾ [الحجرات: ١٧] ؛ لأن إسلامكم راجع إليكم، لأنكم أنقذتم أنفسكم من النار، ولأنكم سلَّمتم أو ضمنتم سلامة دمائكم وأموالكم وأعراضكم بهذا.
إذاً: إن كنتم آمنتم فبمنة من الله عليكم، ﴿بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الحجرات: ١٧] في دعواكم: آمنا.