وقالت طائفة: هذا التسبيح حقيقة، وكلّ شيء على العموم يسبّح تسبيحاً لا يسمعه البشر ولا يفقهه، ولو كان ما قاله الأوّلون من أنه أثر الصنعة والدلالة لكان أمراً مفهوماً، والآية تنطق بأن هذا التسبيح لا يُفقه.
وأجيبوا بأن المراد بقوله: «لا تفقهون» الكفارُ الذين يعرضون عن الاعتبار فلا يفقهون حكمة الله سبحانه وتعالى في الأشياء.
وقالت فرقة: قوله: «مِنْ شَيْءٍ» عموم، ومعناه الخصوص في كل حَيٍّ ونامٍ، وليس ذلك في الجمادات.
ومن هذا قول عكرمة: الشجرة تسبح والأسطوان لا يسبّح. وقال يزيد الرِّقَاشِيّ للحسن وهما في طعام وقد قُدِّم الخِوان: أيسبّح هذا الخِوان يا أبا سعيد؟ فقال: قد كان يسبح مرّة؛ يريد أن الشجرة في زمن ثمرها واعتدالها كانت تسبّح، وأما الآن فقد صار خِواناً مدهوناً.
قلت: ويستدلّ لهذا القول من السُّنّة بما ثبت عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم- مَرّ على قبرين فقال:
«إنهما لَيُعَذَّبان وما يُعَذَّبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنَّميمة وأما الآخر فكان لا يستبرىء من البول» قال: فدعا بِعَسيب رَطْب فشقّه اثنين، ثم غرس على هذا واحداً وعلى هذا واحداً ثم قال: «لعلّه يخفّف عنهما ما لم يَيْبَسَا».(١)
. فقوله عليه الصلاة والسلام. «ما لم ييبسا» إشارة إلى أنهما ما داما رطبين يسبّحان، فإذا يبسا صارا جماداً.
والله أعلم.
. وعلى التأويل الثاني لا يحتاج إلى ذلك؛ فإن كل شيء من الجماد وغيره يسبح.
قلت: ويستدلّ لهذا التأويل وهذا القول من الكتاب بقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ﴾ (ص: ١٧ و١٨).
وقوله: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ للَّهِ﴾ (البقرة: ٧٤) ـ على قول مجاهد ـ، وقوله: ﴿وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً﴾ (مريم: ٩٠ و٩١).