فتضمنت هاتين السورتان الاستعاذة من هذه الشرور كلها بأوجز لفظ وأجمعه، وأدله على المراد، وأعمه استعاذة، بحيث لم يبق شر من الشرور إلا دخل تحت شر المستعاذ منه فيهما.
فإن سورة الفلق تضمنت الاستعاذة من أمور أربعة :
أحدها : شر المخلوقات التي لها شر عموما.
الثاني : شر الغاسق إذا وقب.
الثالث : شر النفاثات في العقد.
الرابع : شر الحاسد إذا حسد.
فنتكلم على هذه الشرور الأربعة مواقعها واتصالها بالعبد، والتحرز منها قبل وقوعها، وبماذا تدفع بعد وقوعها.
وقبل الكلام في ذلك لابد من بيان الشر : ما هو ؟ وما حقيقته ؟
فنقول : الشر يقال على شيئين : على الألم، وعلى ما يفضي إليه، وليس له مسمى سوى ذلك، فالشرور : هي الآلام وأسبابها، فالمعاصي والكفر والشرك وأنواع الظلم : هي شرور، وإن كان لصاحبها فيها نوع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١) الحُمَة : جمع حمة وهو السم أو الإبرة التي تضرب بها الزنبور والحية والعقرب ونحو ذلك أو يلدغ بها.
انظر بدائع الفوائد لابن القيم [ج٢ص٢٠٤].
غرض ولذة، لكنها شرور، لأنها أسباب الآلام، ومفضية إليها، كإفضاء سائر الأسباب إلى مسبباتها، فترتب الألم عليها كترتب الموت على تناول السموم القاتلة، وعلى الذبح والإحراق بالنار، والخنق بالحبل، وغير ذلك من الأسباب التي تكون مفضية إلى مسبباتها ولابد، ما لم يمنع من السببية مانع، أو يعارض السبب ما هو أقوى منه وأشد اقتضاء لضده، كما يعارض سبب المعاصي قوة الإيمان، وعظم الحسنات الماحية وكثرتها، فيزيد في كميتها أو كيفيتها على أسباب العذاب، فيدفع الأقوى الأضعف.
وهذا شأن جميع الأسباب المتضادة، كأسباب الصحة والمرض، وأسباب الضعف والقوة.