تَشَكَّى الاْرْضُ غَيْبَتَهُ اِلَيْهِ وَتَرْشُفُ مَاءَهُ رَشْفَ الرُضاب (١)
فهذه الصورة انما تسنبلت على تصوّت الأرض اليابسة بنزول المطر بعد تأخر. ولابد في كل خيال من نواة من الحقيقة نظير هذا المثال، ولابد في زجاجة كل مجاز من سراج الحقيقة، والاّ كانت بلاغته الخيالية خرافة بلا عرق لا تفيد الاّ حيرة.
المسألة الثالثة:
اعلم! ان كمال الكلام وجماله وحُلته البيانية باسلوبه. واسلوبه صورة الحقائق وقالب المعاني المتخذ من قطعات الاستعارة التمثيلية. وكأن تلك القطعات "سيِمُوطُوغْرَاف" (٢) خياليّ؛ كإراءة لفظ "الثمرة" جنتها وحديقتها. ولفظ "بارز" معركة الحرب. ثم ان التمثيلات مؤسسة على سرّ المناسبات بين الأشياء، والانعكاسات في نظام الكائنات، واخطار امور اموراً؛ كإخطار رؤية الهلال في الثريا في ذهن ابناء النخلة غصنَها الأبيض بالقدم المتقوس بتدلي العنقود (٣). وفي التنزيل (حَتى عادَ كالعُرجُون القديم) (٤).
ثم ان فائدة اسلوب التمثيل كما في الآيات المذكورة هي: ان المتكلم بواسطة الاستعارة التمثيلية يُظهر العروق العميقة، ويوصل المعاني المتفرقة. واذا وضع بيد السامع طرفاً امكنَ له ان يجرّ الباقي الى نفسه، وينتقل اليه بواسطة الاتصال، فبرؤية بعضٍ يتدرج شيئاً فشيئاً - ولو مع ظلمة - الى تمامه. فمن سمِع من الجوهريِّ ما قال في وصف الكلام البليغ: "الكلام البليغ ما ثقبته الفكرةُ".. ومن الخمّار ما قال فيه: "ما طُبخ في مراجل العلم".. ومن الجمَّال ما قال فيه: "ما اخذتَ بخطامه واَنَخْتَهُ في مَبْرك المعنى" ينتقل الى تمام المقصد بملاحظة الصنعة.
ثم ان الحكمة في تشكل الاسلوب هي: ان المتكلم بارادته ينادي ويوقظ المعانيَ الساكنة في زوايا القلب كأنها حفاة عراة. فيخرجون ويدخلون الخيال، فيلبسون ما
(١) للمتنبي في ديوانه ١/٢٦٣.
(٢) الكتابة المتحركة، اصلها: سينماطوغراف ثم اختصرت الى سينما.
(٣) لعل الاستاذ يقصد قول قيس بن خطيم:
وقد لاح في الصبح الثريا لمن رأى كعنقود ملاحيّه حين نوّرا
او قول ابن المعتز:
وارى الثريا في السماء كأنها قدم تبدت من ثياب حداد
(٤) سورة يس: ٣٩.