التراكيب، وتلميح الأساليب، وإيماء أطوار المتكلم. ثم ان من تلك المعاني المعلقة معاني حرفية هوائية ليس لها ألفاظ مخصوصة، ولا لها وطن معين بل كالسيَّاح السيَّار؛ قد يستتر في كلمة وقد يتشربه كلام وقد يتداخل في قصة، فان عصرتَ تقطَّر. كالتحسر في (اِنِي وَضَعْتُها اُنْثى) (١) والتأسف في (لَيْتَ الشَّبَابَ.. الخ). والاشتياق والتمدح والخطاب والاشارة والتألم والتحير والتعجب والتفاخر وغير ذلك. ثم ان شرط حسن المعاشرة بين تلك المعاني المتزاحمة تقسيم العناية والاهتمام على نسبة خدمتها للغرض الاساسيّ. وان شئت مثالاً لهذه المسألة فمن رأس السورة الى هنا مثال بيّن على الوجه المشروح سابقاً.
المسألة السابعة:
اعلم! ان الخيال المندمج في اسلوب لابد ان يتسنبل على نواة حقيقة، ويكون كالمرآة في ان ينعكس به - في المعنويات - القوانينُ والعلل المندرجة في سلسلة الخارجيات.
وفلسفة النحو التي هي المناسبات المذكورة في كتبه أيضاً من هذا القبيل؛ كما يقال: الرفع للفاعل لأن القوي يأخذ القوي. وقس عليه..
المسألة الثامنة:
اعلم! ان سيبويه (٢) نصّ على ان الحروف التي تعدد معانيها كـ "من" و "الى" و"الباء" وغيرها، أصل المعنى فيها واحد لايزول؛ لكن باعتبار المقام والغرض قد يتشرب معنى معلقاً، ويجذبه الى جوفه، فيصير المعنى الأصلي صورة واسلوباً لمسافره. وكذلك ان العارف بفقه اللغة اذا تأمل عَرف ان اللفظ المشترك في الأغلب معناه واحد، ثم بالمناسبات وقع تشبيهات.. ثم منها مجازات.. ثم منها حقائق عرفية.. ثم يتعدد. حتى ان اسم "العين" التى معناه الواحد البصر أو المنهل، يطلق على الشمس أيضاً (٣) بالرمز الى ان العالم العلويَّ ينظر الى العالم السفليِّ بها، او ان ماء الحياة الذي هو الضياء يسيل من ذلك المنبع في الجبل الأبيض المشرف وقس!..
(١) سورة آل عمران: ٣٦.
(٢) هو عمر بن عثمان، امام نحاة البصرة، ولد بالبيضاء من مدن شيراز نشأ بالبصرة ودرس النحو على الخليل الفراهيدى، ورد بغداد فناظر امام نحاة الكوفة الكسائى فحكم بانتصاره عليه، فأسف وعاد الى موطنه، وألف كتابه الذى يعدّ اصل النحو، توفي سنة ٧٩٦هـ.
(٣) والعين: عين الشمس، وعين الشمس: شعاعها الذى لا تثبت عليه العين. وقيل: العين الشمس نفسها، يقال: طلعت العين، وغابت العين. (لسان العرب لابن منظور).


الصفحة التالية
Icon