وأما وجه النظم بين الجمل:
فاعلم! ان التنزيل لما قال (أو كصيب من السماء) مشيراً الى انهم كالذين اضطروا الى السفر في صحراء موحشة في ليلة مظلمة تحت مطر شديد، كأن قطراتِه مصائبُ تصيب مرماها بصَوبها وقد ملأت الجوّ بكثرتها؛ استيقظ ذهن السامع منتظراً لبيان السبب في ان صار الصيّبُ الذي هو في الأصل رحمة مرغوبة مصيبةً هائلة فقال مصوراً لدهشته: (فيه ظلمات) مشيراً الى ان المطر كما هو ظرف لظلمة السحاب ولكثافته؛ كذلك لأجل عمومه وكثرته واحاطته كأنه ظرف للّيلة المُتَفَتِتَة قطراتٍ مسودةً بين قطراته.. ثم ما من سامع يسمع (فيه ظلمات) الا وينتظر لبيان. كأن المتكلم سمع صدى الرعد من ذهن السامع فقال: (ورعد) مشيراً الى تهويل الحال وتشديدها بان السماء أميرة الموجودات عزمت على اهلاكهم، وتصيح عليهم برعدها؛ اذ المصاب المدهوش يتخيل من الكائنات المتعاونة على اضراره حركة مزعجة تحت سكونها، ونطقاً مهيباً تحت سكوتها. فاذا سمع الرعد توهَّم انها تتكلم بما يهدده وتصيح عليه؛ اذ بالخوف يحسب كل صيحة عليه.. ثم ان السامع لايسمع الرعد الاّ ويستهل فيبرق في ذهنه رفيقه الدائميّ، ولذلك قال: (وبرق) مشيراً بالتنكير الى انه غريب عجيب. نعم! هو في نفسه عجيب؛ اذ بتولده يموت عالمٌ من الظلمات فتطوى وتلقى الى العدم، وبموته فجأة يحيى ويحشر عالم من الظلمات. كأنه نار حينما تنطفئ تورث ملء الدنيا دخاناً. ومن شأن المصاب بها ان يمعن النظر ولا يمر بنظر سطحي بناء على الالفة والمناسبة حتى يتكشف عن دقائق صنع القدرة.. ثم بعد هذا التصوير كأن ذهن السامع يتحرك سائلا: كيف يعملون؟ وبِمَ يتشبثون؟ فقال: (يجعلون أصابعهم في اذانهم من الصواعق حذر الموت) مشيراً الى ان لامناص ولا ملجأ ولا منجى لهم حتى انهم كالغريق يتمسكون بما لايُتَمَسك به. فمن التدهش يستعملون الأصابع موضع الأنامل كأن الدهشة تضرب على أيديهم فيدخلون الأصابع من الوجع في الآذان ومن التبله انهم يسدون الآذان لئلا تصيبهم الصواعق.. ثم بعد هذا يتحرى ذهنُ السامع سائلا: أعمّت المصيبة أم خصّت فيُرجى؟ فقال: (والله محيط بالكافرين) مشيراً الى ان هذه المصيبة جزاءٌ لكفرانهم النعمة. يؤاخذهم الله تعالى به لشذوذهم عن القانون الالهي المودع في الجمهور. ثم لما سمع شدة الرعد يحدّث نفسه بـ "ألا يفيدهم البرق بأراءة الطريق"؟ فقال:


الصفحة التالية
Icon