مقدمة في نكات هذه الآية:
اعلم! ان البرهان إما "لِمّي" وهو الاستدلال بالمؤثر على الأثر. وإما "اِنّيّ" وهو الاستدلال بالأثر على المؤثر، وهذا أسلم ١. وهو إما "إمكانيّ بالاستدلال" بتساوي الطرفين على المرجِّح، واما "حدوثيّ بالاستدلال" بالتحوّل والتبدّل على المُوجِد.. وكل منها اما باعتبار ذوات الاشياء أو باعتبار صفاتها.. وكل منها إما باعطاء الوجود أو بادامة البقاء.. وكل منها إما "دليل اختراعيّ" أو "دليل عنايتيّ". وهذه الآية اشارة الى هذه الأنواع، فالملخص منها هنا، وقد فصلناه في كتاب آخر.
أما دليل العناية على اثبات الصانع الذي تلوِّح به هذه الآية، هو: "النظام المندمج في الكائنات"؛ اذ النظام خيط نيط به المصالح والحكم. فجميع الآيات القرآنية التي تعد منافع الأشياء وتذكر حِكَمها انما هي نسّاجةٌ لهذا الدليل، ومظاهر لتجلِّي هذا البرهان؛ اذ النظام المرعي به المصالح والحكم كما يثبت وجود نظّام، كذلك يدل على قصد الصانع وحكمته وينفي من البين وهمَ التصادف الأعمى والاتفاقية العمياء.
ياهذا! ان لم يحط نظرك بهذا النظام العالي المزيَّن بفصوص الحكَم، ولاتقتدر على الاستقراء التام؛ فانظر بجواسيس الفنون - التي هي الحواس لنوعك - الحاصلة من تلاحق الأفكار - الذي هو في حُكم فكر النوع - لترى نظاماً يبهر العقول، وتعلم ان كلّ فن من فنون الكائنات كشّاف بكلية قواعده عن اتساق وانتظام لايعقل أكمل منهما؛ اذ كل نوع من الكائنات اما تشكّل فيه فن أو يقبل ان يتشكل. والفن عبارة عن قواعد كلية. وكلية القاعدة تدل على حسن النظام؛ اذ ما لانظام له لاتجري فيه الكلية. ألا ترى ان قولنا "كل عالم فهو ذو عمامة بيضاء" انما يصدق كلية، اذا كان في ذلك النوع انتظام. فانتج أن كل فن من الفنون الكونية بسبب كلية قواعده ينتج بالاستقراء التام نظاماً كاملا شاملا، وان كل فن برهان نيّر يشير الى المصالح والثمرات المتدلية كالعناقيد في حلقات سلاسل الموجودات، ويلوِّح الى الحِكَم والفوائد المستترة في معاطف انقلابات الأحوال. فترفع الفنونُ اعلامَ الشهادة على قصد الصانع وحكمته، كأن كل فن نجم ثاقب في طرد شياطين الأوهام.

١ كدلالة النار على الدخان ودلالة الدخان على النار، وهذا اسلم من الشبهات (ت: ٩٦)


الصفحة التالية
Icon