وأما (ربكم) فإشارة إلى ان العبادة كما ينبغي ان يرغّب فيها لأنها نسبة شريفة ومناسبة عالية؛ كذلك لابد ان تطلب لأنها شكر وخدمة لمن هو يربيكم وتحتاجون اليه.
أما هيئات (الذي خلقكم والذين من قبلكم)
فاعلم! ان (الذي) الذي جهة معلوميته الصلة ١ يشير الى ان معرفة الله تعالى انما تكون بأفعاله وآثاره لا بكنهه.
وان "خَلَق" الممتاز عن الايجاد والانشاء بكونه على وجه مقدر مستو، اشارة الى ان استعداد البشر مسدَّد للتكليف.. وأيضاً رمز الى ان العبادة وظيفة، لأنها نتيجة الخلقة واجرتها. فما الثواب الاّ من محض فضل الله تعالى.
وان (الذين) بناءً على ابهامه ايماء الى ان الذين سبقوكم انقرضوا فماتوا فذهبوا.. فلم يبق منهم جهة المعلومية الا كونهم مخلوقين قبلكم.. فأنتم على شفا جرف القبر.. فاعتبروا.. فلا تغتروا بالدنيا.. فتشبثوا بأذيال العبادة التي هي وسيلة السعادة الابدية.
أما كيفيات (لعلكم تتقون) فاعلم! ان "لعل" للرجاء ففي المرغوب يقال اطماع وفي المكروه اشفاق. فالرجاء في حق المتكلم هنا حقيقةً محالٌ. فهو اما باعتباره لكن مجازاً، واما باعتبار المخاطب، واما باعتبار المشاهدين والسامعين:
أما باعتبار المتكلم فاستعارة تمثيلية كما ان من جهز أحداً بأسباب خدمةٍ يرجو منه عرفا تلك الخدمة؛ كذلك ان الله جهز البشر باستعداد الكمال وقابلية التكليف وواسطة الاختيار. ففي الاستعارة اشارة الى ان حكمة خلق البشر هي التقوى.. وكذا رمز الى ان نتيجة العبادة مرتبة التقوى.. وكذلك ايماء الى ان التقوى أكبر المراتب.. وأيضاً تلميح الى طرز اسلوب الملوك بالاطماع والرمز في موضع الوعد القطعيّ.
وأما باعتبار المخاطب فكأنه يقول: اعبدوا حال كونكم راجين للتقوى ومتوسطين بين الرجاء والخوف. وفي هذا الاعتبار اشارة الى انه لابد ان لايعتمد الانسان على

١ فاذا قيل مثلاً: "الذى جاءك" فجهته المعلومة لديك هى المجئ اليك. اما سائر جهاته فمجهولة (ت: ١١٠)


الصفحة التالية
Icon