يتفطن - ولو بامارة ضعيفة - انه عذب، فلا تقدر الأوهام ولو قوية على تغليطه. وأما الآخر فيتسفل وينظر من جانب التفرعات ولا يرى منبع العين فيحتاج لمعرفة عذوبة كل قطعة ماء الى دليل قطعي. فأدنى وهمٍ يُورطه في الشبهة. أو كمثال شخصين بينهما مرآة ينظر أحدهما الى الوجه الشفّاف، والآخر الى الوجه الملوّن.
والحاصل: انه لابد في النظر الى صنعه تعالى ان ينظر اليه من جانبه تعالى مع ملاحظة عنايته وربوبيته وليس هذا النظر الا بنور الايمان ولاتكون الأوهام حينئذ - ولو قوية - إلا أوهن من بيت العنكبوت. ولو نظر اليه من جهة الممكنات بنظر المشتري وبفكره الجزئي لقويت في عينه الأوهامُ الضعيفة فيتستر عنه الحقيقةُ كما يمنع جناحُ بعوضةٍ رؤية العين لجبل الجوديّ.
وان نظم جملة: (وأما الذين كفروا..) الخ هو: انه لما ارى طريق فهم حكمة اسلوب التمثيلات - وهي النظر بنور الايمان من جانب الواجب الوجود - بيّن هنا الطريق المقابل الذي هو منشأ الأوهام والتعللات بأن ينظر من طرف نفسه بظلمة الكفر التي تصور كل شئ مظلما مع مرض القلب الذي يثقل به اخفّ وَهْم. ثم يضل طريق الحق ثم يتردد ثم يستفهم ثم ينكر. فالقرآن بالايجاز والكناية أورد - اشارةً الى استفهامهم الانكاري - قوله: (ماذا أراد الله بهذا مثلا) بدل "لايعلمون" مع انه المطابق للسابق ظاهراً.
وان نظم جملة: (يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً) هو: انها جواب عن صورة استفهامهم فلغاية الايجاز نزلت الغاية والعاقبةُ منزلة العلة الغائية كأنهم يسألون ويقولون: لأي شئ كان هكذا؟ ولِمَ لم يكن اعجازه بديهيا؟ ولِمَ لم يكن كونه كلام الله ضرورياً؟ ولِمَ صار معرض الأوهام بسبب هذه الأمثال؟ فأجاب القرآن بقوله: (يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً) أي: لأجل ان من تفكر فيه بنور الايمان ازداد نوراً. ومن تفكر بظلمة الكفر والتنقيد ازداد ظلمة.. وهذا لأجل انه نظريّ ليس بديهياً.. وهذا لأجل تفريق الأرواح الصافية العلوية عن الأرواح الكدرة السفلية.. وهذا لأجل تمييز الاستعدادات العالية بالنشوء والنماء عن الاستعدادات الخبيثة.. وهذا لأجل تمييز الفطرة الصحيحة بالتكمل والمجاهدة والاجتهاد عن الفطرة المتفسخة الفاسدة.. وهذا لأجل ان أمتحان البشر يستلزمه.. وهذا لأجل ان الابتلاء يقتضيه..