وأما هيئات جملة (يضل به كثيراً ويهدي به كثيراَ) فاعلم! ان الترتيب يقتضي تقديم الثانية لكن لما كان الغرض ردّ اعتراض المتردِّد المستفهِم المستنكِر المستقبح كان (يضل) أهمّ. أما العدول عن "الضلالة والهداية" المناسبتين للسؤال الى صورة الفعل المضارع فاشارة الى ان كفرهم يتكاثف ظلمة على ظلمة بنسبة تزايد النزول تجدداً؛ كما ان المؤمن يتزايد ايمانه بدرجات النزول نوراً على نور.. وكذا في الفعل - بناء على كونه جوابا - رمز الى بيان حال الفريقين وبيان السبب. وأما (كثيراً) ففي الأُولى كمية وعدداً، وفي الثانية قيمة وكيفية. نعم! ان كرام الناس كثيرون وان قلّوا. فالتعبير بالكثير في الثانية رمز الى سرّ كون القرآن رحمة للبشر ١. تأمل..
وأما جملة (وما يضل به الاّ الفاسقين) فاعلم! انه لما ذكر الكثير في الاولى دفع الوسوسة والخوف والتردد وتهمة النقص في القرآن ببيان: ان الضالين من هم؟ وان منشأ الضلالة فسقهم، وان سببها كسبهم، وان القصور منهم لا من القرآن، وان خلق الضلالة جزاء لفعلهم..
ثم اعلم! ان كل واحدة من هذه الجمل كما انها كشّافة لسابقتها؛ كذلك مفسَّرة بلاحقتها كأنها دليل للسابقة نتيجة للاحقة.
وايضاحه: ان فيها سلسلتين.
إحداها هكذا:

انه لايستحي.. لأنه لايترك.. لأنه بليغ لأنه حق.. لأنه كلام الله.. لان المؤمن يعلمه.
والثانية هكذا: انه لايستحي كما يقول المنكر.. لأنهم يقولون يلزم تركه.. لأنهم لايعلمون حكمته.. لأنهم يقولون ما الفائدة فيه.. لأنهم ينكرونه.. لأنهم يستحقرونه.. لأنهم يقعون في الضلالة بسماعه.. لأنهم يضلهم القرآن.. لأنهم هم الذين فسقوا وخرجوا عن قشرهم.. لأنهم نقضوا عهد الله.. لأنهم مزقوا ما اتصل بأمر التكوين والتشريع.. لأنهم يفسدون النظام الالهيّ في الارض. فاذاً هم الخاسرون في الدنيا باضطراب الوجدان وبقلق القلب وبتوحش الروح، وفي الآخرة بالعذاب الأبديّ وبغضب الله، فتأمل في سلاسة السلسلتين!.. (٢)
١ اِذ من لطف القرآن وشمول رحمته للناس اظهار فضائل المهتدين القليلين كثيرةً، وبيان ان صاحب فضلية وهداية اولى" من الفٍ من المحرومين منها، لذا فالكرام كثيرون وان قلّوا (ت: ١٩٦)
(٢) جزاك الله خيراً كثيراً لقد أحسنت في فهم السلسلتبن وتفهيمهما (بخط المؤلف على نسخة مطبوعة)


الصفحة التالية
Icon