مر الى شدة الغضب ولم يقل "لاتؤمنون" اشارة الى شدّة تمردهم اذ يتركون الايمان الذي عليه الدلائل ويقبلون الكفر الذي على بطلانه البراهين. وواو الحالية في (وكنتم) تشير إلى مقدر، اذ الجملتان ماضيتان. والأُخريان مستقبلتان كلاهما لايوافق قاعدة مقارنة الحال لعامل ذي الحال، فاذاً التقدير "والحال انكم تعلمون". ١
فإن قلت: انهم وان علموا بالموت والحياة الأُولى لكنهم لايعلمون انهما من الله، وكذلك لايقرون بالحياة الثانية ولايصدقون بالرجوع اليه تعالى؟
قيل لك: من البلاغة تنزيل الجاهل منزلة العالم عند ظهور دلائل ازالة الجهل. فلما كان التفكر في أطوار الموت الأول والحياة الأُولى ملجأ الى الاقرار بالصانع وكان العلم بها مقنعا للذهن بوقوع الحياة الثانية؛ كانوا كأنهم عالمون بهذه السلسلة. والخطاب في (كنتم) اشارة الى ان لهم في عالم الذرات أيضاً وجوداً وتعينا. لا ان الذرات كيفما اتفقت صارت أجسادَهم المعينة بالتصادف. وإيثار (أمواتا) على جماد ٢ أو ذرات ايماء الى مآل (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) ٣.
وأما جملة (فأحياكم) :
فان قلت: الفاء للتعقيب والاتصال مع تخلل تلك الأطوار وتوسط مسافة طويلة الى الحياة؟
قيل لك: الفاء للإشارة إلى منشأ دليل الصانع وهو ان انقلابها من الجمادية الى الحيوانية دفعةً من غير توسط سبب معقول يُلجئ الذهن الى الاقرار بالصانع. وكذا ان الأطوار في حالة الموات ناقصة غير ثابتة شأنها التعقيب. وإيثار (أحياكم) على "صرتم أحياء" للتصريح، أي صرتم أحياء ولايمكن ذلك بغير قدرة الصانع. فانتج ان الله تعالى هو الذي أحيا.
وأما جملة (ثم يميتكم) بدل "تموتون" فإشارة كما مر الى أن الموت تصرف عظيم للقدرة بمقياس القدر. ألا ترى ان من استوفى عمره الطبيعيّ ثم انتهى إلى
٢ على جمادات (ش)
٣ سورة الانسان: ١.