ومنها: ان الضد وان كان معانداً لضده لكنه مماثل له في أكثر الأحكام. فكما ان الايمان يثمر اللذائذ الأبدية، كذلك من شأن الكفر ان يتولد منه الآلام الأبدية.
فمن مزج هذه الجهات الست يستنتج ان الجزاء الغير المتناهي انما هو في مقابلة الجناية الغير المتناهية وما هو إلاّ عين العدالة.
ان قلت: طابق العدالة ١ لكن اين الحكمة الغنية عن وجود الشرور المنتجة للعذاب؟
قيل لك: كما قد سمعت مرة أخرى انه لايُترك الخير الكثير لتخلل الشر القليل لأنه شر كثير. اذ لما اقتضت الحكمة الالهية تظاهر ثبوت الحقائق النسبية التي هي أزيد بدرجات من الحقائق الحقيقية - ولا يمكن هذا التظاهر الا بوجود الشر؛ ولا يمكن توقيف الشر على حدّه ومنع طغيانه الا بالترهيب؛ ولا يمكن تأثير الترهيب حقيقة في الوجدان الا بتصديق الترهيب وتحقيقه بوجود عذاب خارجي؛ اذ الوجدان لا يتأثر حق التأثر -كالعقل والوهم - بالترهيب الا بعد ان يتحدس بالحقيقة الخارجية الأبدية بتفاريق الامارات - فمن عين الحكمة بعد التخويف من النار في الدنيا وجود النار في الآخرة.
ان قلت: قد وافق الحكمة فما جهة المرحمة فيه؟
قلت: لا يتصور في حقهم إلاّ العدم أو الوجود في العذاب، والوجود - ولو في جهنم - مرحمةٌ وخيرٌ بالنسبة الى العدم إن تأملت في وجدانك؛ اذ العدم شر محض، حتى ان العدم مرجع كل المصائب والمعاصي ان تفكرت في تحليلها. واما الوجود فخير محض فليكن في جهنم.. وكذا ان من شأن فطرة الروح - اذا علم ان العذاب جزاء مزيل لجنايته وعصيانه - ان يرضى به لتخفيف حمل خجالة الجناية ويقول: هو حق، وانا مستحق. بل حباً للعدالة قد يلتذ معنى! وكم من صاحب ناموس في الدنيا يشتاق الى اجراء الحد على نفسه ليزول عنه حجاب خجالة الجناية. وكذا ان الدخول وان كان الى خلود دائم وجهنم بيتهم أبدا، لكن بعد مرور جزاء العمل دون الاستحقاق يحصل لهم نوع اُلفة وتطبّع مع تخفيفات كثيرة مكافأةً لأعمالهم الخيرية. اشارت اليها الأحاديث. فهذا مرحمة لهم مع عدم لياقتهم.
***