وفي الخامسة: أعني جملة (فزادهم الله مرضاً) هو:
انهم حينما لم يعرفوا انه مرض حتى يتجنبوا منه بل طلبوه مستحسنين له زادهم الله تعالى؛ اذ "مَن طلب وَجَد".. وفي "الفاء" التي هي للتعقيب السببي - مع ان وجود المرض ليس سببا لزيادته - رمزٌ الى انهم لما لم يشخصوا المرض فلم يتحروا وسائل الشفاء بل توسلوا بأسباب الزيادة كمن يضارب خصماً غالباً بيده العليلةصاروا كأنهم طلبوا الزيادة فزادهم الله مرضاً بقلبِ أملهم يأساً مزعجا، بسبب ظفر المؤمنين، وقلب خصومتهم حقداً محرقاً للقلب بسبب غلبة المؤمنين، فتولد من مرضَي اليأس والحقد داء الخوف وعلة الضعف ومرض الذلة فاستولت على القلب.
ثم ان الله تعالى لم يقل "فزاد الله مرضهم" بل جعل المفعول تمييزاً للإشارة الى ان المرض الباطنيّ القلبيّ سرى الى الظاهر أيضاً وتعدى الى جميع الأفعال، فكأن هذا الداء الخبيث استولى على وجودهم فكأن وجودهم نفس الداء فزيادة جراحات المرض ونفطاته ١ زيادة لنفس ذواتهم؛ اذ "اِشْتَعَلَ الْبَيْتُ ناراً" يفيد ان النار سرت الى تمام البيت حتى كأن تمام الْبَيْت نار تلتهب بخلاف "اِشْتَعَلتَ نَارُ الْبَيْتِ" فانه يصدق بتلهب النار من أيّ جانب كان.
وفي السادسة: أعني جملة (ولهم عذاب اليم) هو:
ان "اللام" التي هي للنفع، اشارة الى انه لو كان لهم منفعة لكانت البتة ألماً معذباً دنيوياً، أو عذاباً اخروياً مؤلماً، وكونه منفعة من المحال، فمحال لهم المنفعة.. وفي وصف العذاب بالأليم أي المتألم، مع ان الأليم هو الشخص رمز الى ان العذاب استولى على وجودهم وأحاط بذواتهم ونفذ في بواطنهم بحيث تحولوا بنفس العذاب، وصار العذاب عين ذواتهم، كانقلاب الفحم جمرة نار بنفوذ النار ٢. فاذا نظر الخيال الى صورة العذاب واستمع من جوانبه أنيناً وتألماً وعويلاً تتولد من الحياة المتجددة تحت العذاب يتخيل ان العذاب هو الذي يئنّ ويتألم. فما أشد التهديد لمن تأمل!..

١ نفطاته: بثراته.
٢ بنفوذ النار فيها (ش).


الصفحة التالية
Icon