قوله : ١٢٥ - ﴿ وإذ جعلنا البيت ﴾ هو الكعبة المشرفة غلب عليه كما غلب النجم على الثريا و ﴿ مثابة ﴾ مصدر من ثاب يثوب مثابا ومثابة أي مرجعا يرجع الحجاج إليه بعد تفرقهم عنه ومنه قول ورقة بن نوفل في الكعبة :
( مثاب لأقفاء القبائل كلها | تخب إليها اليعملات الذوابل ) |
( جعل البيت مثابات لهم | ليس منه الدهر يقضون الوطر ) |
( وفيهم مقامات حسان وجوهها | وأندية ينتابها القول والفعل ) |
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله :﴿ وإذ ابتلى إبراهيم ربه ﴾ قال : ابتلاه الله بالطهارة : خمس في الرأس وخمس في الجسد في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس وفي الجسد : تقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل مكان الغائط والبول بالماء وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر عنه نحوه وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه وابن عساكر عنه قال : ما ابتلي أحد بهذا الدين فقام به كله إلا إبراهيم وقرأ هذه الآية فقيل له : ما الكلمات ؟ قال : سهام الإسلام ثلاثون سهما : عشرة في براءة ﴿ التائبون العابدون ﴾ إلى آخر الآية وعشرة في أول سورة قد أفلح و ﴿ سأل سائل ﴾ ﴿ والذين يصدقون بيوم الدين ﴾ الآيات وعشرة في الأحزاب ﴿ إن المسلمين ﴾ إلى آخر الآية ﴿ فأتمهن ﴾ كلهن فكتب له براءة قال تعالى :﴿ وإبراهيم الذي وفى ﴾ وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم عنه قال : منهن مناسك الحج وأخرج ابن جرير عنه قال : الكلمات ﴿ إني جاعلك للناس إماما ﴾ ﴿ وإذ يرفع إبراهيم القواعد ﴾ والآيات في شأن المناسك والمقام الذي جعل لإبراهيم والرزق الذي رزق ساكنو البيت وبعث محمد في ذريتهما وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن مجاهد في قوله :﴿ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات ﴾ قال : ابتلى بالآيات التي بعدها وأخرجا أيضا عن الشعبي مثله وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم فأتمهن : فراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم ومحاجته نمروذ في الله حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلافهم وصبره على قذفهم إياه في النار ليحرقوه في الله والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده حين أمره بالخروج عنهم وما أمره به من الضيافة والصبر عليها وما ابتلي به من ذبح ولده فلما مضى على ذلك كله ﴿ قال ﴾ الله ﴿ له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ﴾ وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن قال : ابتلاه بالكوكب فرضي عنه وابتلاه بابنه فرضي عنه وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله :﴿ فأتمهن ﴾ قال : فأداهن وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :[ من فطرة إبراهيم السواك ] قلت : وهذا على تقدير أن إسناده إلى عطاء صحيح فهو مرسل لا تقوم به الحجة ولا يحل الاعتماد على مثله في تفسيره كلام الله سبحانه وهكذا لا يحل الاعتماد على مثل ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد قال : من فطرة إبراهيم غسل الذكر والبراجم ومثل ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عنه قال : ست من فطرة إبراهيم : قص الشارب والسواك والفرق وقص الأظفار والاستنجاء وحلق العانة قال : ثلاثة في الرأس - وثلاثة في الجسد وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في الصحيح وغيره من طريق جماعة من الصحابة مشروعية تلك العشر لهذه الأمة ولم يصح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنها الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم وأحسن ما روي عنه ما أخرجه الترمذي وحسنه عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم يقص أو يأخذ من شاربه قال : كان خليل الرحمن إبراهيم يفعله ولا يخفاك أن فعل الخليل له لا يستلزم أنه من الكلمات التي ابتلي بها وإذا لم يصح شيء عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا جاءنا من طريق تقوم بها الحجة تعيين تلك الكلمات لم يبق لنا إلا أن نقول : إنها ما ذكرها الله سبحانه في كتابه بقوله :﴿ قال إني جاعلك ﴾ إلى آخر الآيات ويكون ذلك بيانا للكلمات أو السكوت وإحالة العلم في ذلك على الله سبحانه وأما ما روي عن ابن عباس ونحوه من الصحابة من بعدهم في تعيينها فهو أولا أقوال صحابة لا يقوم بها الحجة فضلا عن أقوال من بعدهم وعلى تقدير أنه لا مجال للاجتهاد في ذلك وأن له حكم الرفع فقد اختلفوا في التعيين اختلافا يمتنع معه العمل ببعض ما روي عنهم دون البعض الآخر بل اختلفت الروايات عن الواحد منهم كما قدمنا عن ابن عباس فكيف يجوز العمل بذلك - وبهذا تعرف ضعف قول من قال : إنه يصار إلى العموم ويقال : تلك الكلمات هي جميع ما ذكرنا هنا فإن هذا يستلزم تفسير كلام الله بالضعيف والمتناقض وما لا تقوم به الحجة وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس :﴿ قال إني جاعلك للناس إماما ﴾ يقتدى بدينك وهديك وسنتك ﴿ قال : ومن ذريتي ﴾ إماما لغير ذريتي ﴿ قال : لا ينال عهدي الظالمين ﴾ أن يقتدى بدينهم وهديهم وسنتهم وأخرج الفريابي وابن أبي حاتم عنه قال : قال الله لإبراهيم :﴿ إني جاعلك للناس إماما قال : ومن ذريتي ﴾ فأبى أن يفعل ثم قال :﴿ لا ينال عهدي الظالمين ﴾ وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال : هذا عند الله يوم القيامة لا ينال عهده ظالما فأما في الدنيا فقد نالوا عهده فوارثوا به المسلمين وغازوهم وناكحوهم فلما كان يوم القيامة قصر الله عهده وكرامته على أوليائه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في تفسير الآية أنه قال : لا أجعل إماما ظالما يقتدى به وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال : يخبره أنه إن كان في ذريته ظالم لا ينال عهده ولا ينبغي له أن يوليه شيئا من أمره وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه أنه قال : ليس لظالم عليك عهد في معصية الله وقد أخرج وكيع ابن مردويه من حديث علي عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله :﴿ لا ينال عهدي الظالمين ﴾ قال : لا طاعة إلا في المعروف بإسناده عند ابن مردويه هكذا : قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد حدثنا أحمد بن عبد الله بن سعد الأسدي حدثنا سليم بن سعيد الدامغاني حدثنا وكيع عن الأعمش عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي عن النبي صلى الله عليه و سلم فذكره وأخرج عبد بن حميد من حديث عمران بن حصين سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول :[ لا طاعة لمخلوق في معصية الله ] وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في تفسير الآية : ليس للظالم عهد وإن عاهدته فانقضه قال ابن كثير : وروي عن مجاهد وعطاء ومقاتل وابن حبان نحو ذلك وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ مثابة للناس وأمنا ﴾ قال : يثوبون إليه ثم يرجعون وأخرج ابن جرير عنه أنه قال : لا يقضون منه وطرا يأتونه ثم يرجعون إلى أهليهم ثم يعودون إليه وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير والبيهقي عن مجاهد نحوه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ وأمنا ﴾ قال : أمنا للناس وأخرج البخاري وغيره من حديث أنس عن عمر بن الخطاب قال : وافقت ربي في ثلاث ووافقني ربي في ثلاث قلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت :﴿ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ﴾ وقلت : يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب - واجتمع على رسول الله صلى الله عليه و سلم نساؤه في الغيرة فقلت لهن :﴿ عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن ﴾ فنزلت كذلك وأخرجه مسلم وغيره مختصرا من حديث ابن عمر عنه وأخرج مسلم وغيره من حديث جابر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعا حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين ثم قرأ :﴿ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ﴾ ] وفي مقام إبراهيم عليه السلام أحاديث كثيرة مستوفاة في الأمهات وغيرها والأحاديث الصحيحة تدل على أن مقام إبراهيم هو الحجر الذي كان إبراهيم يقوم عليه لبناء الكعبة لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل به ليقوم فوقه كما في البخاري من حديث ابن عباس وهو الذي كان ملصقا بجدار الكعبة وأول من نقله عمر بن الخطاب كما أخرجه عبد الرزاق والبيهقي بإسناد صحيح وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق مختلفة وأخرج ابن أبي حاتم من حديث جابر في وصف حج النبي صلى الله عليه و سلم قال : لما طاف النبي صلى الله عليه و سلم قال له عمر : هذا مقام إبراهيم ؟ قال : نعم وأخرج نحوه ابن مردويه
قوله :﴿ عهدنا ﴾ معناه هنا : أمرنا وأوجبنا وقوله :﴿ أن طهرا ﴾ في موضع نصب ينزع الخافض : أي بأن طهرا قاله الكوفيون وقال سيبويه : هو بتقدير أي المفسرة : أي أن طهرا فلا موضع لها من الإعراب والمراد بالتطهير قيل : من الأوثان وقيل : من الآفات والريب وقيل : من الكفار وقيل : من النجاسات وطواف الجنب والحائض وكل خبيث والظاهر أنه لا يختص بنوع من هذه الأنواع وأن كل ما يصدق عليه مسمى التطهير فهو يتناوله إما تناولا شموليا أو بدليا والإضافة في قوله :﴿ بيتي ﴾ للتشريف والتكريم وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأهل المدينة وهشام وحفص بيتي بفتح الياء وقرأ الآخرون بإسكانها والطائف : الذي يطوف به وقيل : الغريب الطارئ على مكة والعاكف : المقيم : وأصل المعكوف في اللغة : اللزوم والإقبال على الشيء وقيل : هو المجاور دون المقيم من أهلها والمراد بقوله :﴿ الركع السجود ﴾ المصلون وخص هذين الركنين بالذكر لأنهما أشرف أركان الصلاة