قوله ٢٤ - ﴿ والمحصنات من النساء ﴾ عطف على المحرمات المذكورات وأصل التحصن التمنع ومنه قوله تعالى ﴿ لتحصنكم من بأسكم ﴾ أي لتمنعكم ومنه الحصان بكسر الحاء للفرس لأنه يمنع صاحبه من الهلاك والحصان بفتح الحاء : المرأة العفيفة لمنعها نفسها ومنه قول حسان :
( حصان رزان ما تزن بريبة | وتصبح غرثى من لحوم الغوافل ) |
وقد اختلف أهل العلم في تفسير هذه الآية أعني قوله ﴿ والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ﴾ فقال ابن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو قلابة ومكحول والزهري : المراد بالمحصنات هنا : المسبيات ذوات الأزواج خاصة أي هن محرمات علكم إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي من أرض الحرب فإن تلك حلال وإن كان لها زوج وهو قول الشافعي : أي أن السباء يقطع العصمة وبه قال ابن وهب وابن عبد الحكم وروياه عن مالك وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وأحمد وإسحاق وأبو ثور واختلفوا في استبرائها بماذا يكون ؟ كما هو مدون في كتب الفروع وقالت طائفة : المحصنات في هذه الآية العفائف وبه قال أبو العالية وعبيدة السلماني وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء ورواه عبيدة عن عمر ومعنى الآية عندهم : كل النساء حرام إلا ما ملكت أيمانكم : أي تملكون عصمتهن بالنكاح وتملكون الرقبة بالشراء وحكى ابن جرير الطبري أن رجلا قال لسعيد بن جبير : أما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية فلم يقل فيها شيئا ؟ فقال : كان ابن عباس لا يعلمها وروى ابن جرير أيضا عن مجاهد أنه قال : لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل انتهى ومعنى الآية والله أعلم لا سترة به أي وحرمت عليكم المحصنات من النساء : أي المزوجات أعم من أن يكن مسلمات أو كافرات إلا ما ملكت أيمانكم منهن أما يسبي فإنها تحل ولو كانت ذات زوج أو بشراء فإنها تحل ولو كانت مزوجة وينفسخ النكاح الذي كان عليها بخروجها عن ملك سيدها الذي زوجها وسيأتي ذكر سبب نزول الآية إن شاء الله والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وقد قرئ ﴿ المحصنات ﴾ بفتح الصاد وكسرها فالفتح على أن الأزواج أحصنوهن والكسر على أنهن أحصن فروجهن عن غير أزواجهن أو أحصن أزواجهن قوله ﴿ كتاب الله عليكم ﴾ منصوب على المصدرية : أي كتب الله ذلك عليكم كتابا وقال الزجاج والكوفيون : إنه منصوب على الإغراء : أي الزموا كتاب الله أو عليكم كتاب الله واعترضه أبو علي الفارسي بأن الإغراء لا يجوز فيه تقديم المنصوب وهذا الاعتراض إنما يتوجه على قول من قال : إنه منصوب بعليكم المذكور في الآية وروي عن عبيدة السلماني أنه قال : إن قوله ﴿ كتاب الله عليكم ﴾ إشارة إلى قوله تعالى ﴿ مثنى وثلاث ورباع ﴾ وهو بعيد بل هو إشارة إلى التحريم المذكور في قوله ﴿ حرمت عليكم ﴾ إلى آخر الآية قوله ﴿ وأحل لكم ما وراء ذلكم ﴾ قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص وأحل على البناء للمجهول وقرأ الباقون على البناء للمعلوم عطفا على الفعل المقدر في قوله ﴿ كتاب الله عليكم ﴾ وقيل على قوله ﴿ حرمت عليكم ﴾ ولا يقدح في ذلك اختلاف الفعلين وفيه دلالة على أنه يحل لهم نكاح ما سوى المذكورات وهذا عام مخصوص بما صح عن النبي صلى الله عليه و سلم من تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها وقد أبعد من قال : إن تحريم الجمع بين المذكورات مأخوذ من الآية هذه لأنه حرم الجمع بين الأختين فيكون ما في معناه في حكمه وهو الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها وكذلك تحريم نكاح الأمة لمن يستطيع نكاح حرة كما سيأتي فإنه يخصص هذا العموم قوله ﴿ أن تبتغوا بأموالكم ﴾ في محل نصب على العلة : أي حرم عليكم ما حرم وأحل لكم ما أحل لأجل أن تبتغوا بأموالكم النساء الللاتي أجلهن الله لكم ولا تبتغوا بها الحرام فتذهب حال كونكم ﴿ محصنين ﴾ أي متعففين عن الزنا ﴿ غير مسافحين ﴾ أي غير زانين والسفاح : الزنا وهو مأخوذ من سفح الماء : أي صبه وسيلانه فكأنه سبحانه أمرهم بأن يطلبوا بأموالهم النساء على وجه النكاح لا على وجه السفاح وقيل إن قوله ﴿ أن تبتغوا بأموالكم ﴾ بدل من ما في قوله ﴿ ما وراء ذلكم ﴾ أي وأحل لكم الابتغاء بأموالكم والأول أولى وأراد سبحانه بالأموال المذكورة ما يدفعونه في مهور الحرائر وأثمان الإماء قوله ﴿ فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن ﴾ ما موصولة فيها معنى الشرط والفاء في قوله ﴿ فآتوهن ﴾ لتضمن الموصول معنى الشرط والعائد محذوف : أي فآتوهن أجورهن عليه
وقد اختلف أهل العلم في معنى الآية : فقال الحسن ومجاهد وغيرهما : المعنى فما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بالنكاح الشرعي ﴿ فآتوهن أجورهن ﴾ أي مهورهن وقال الجمهور : إن المراد بهذه الآية نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام ويؤيد ذلك قراءة أبي بن كعب وابن عباس وسعيد بن جبير فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن ثم نهى عنها النبي صلى الله عليه و سلم كما صح ذلك من حديث علي قال : نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر وهو في الصحيحين وغيرهما وفي صحيح مسلم من حديث سبرة بن معبد الجهني عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال يوم فتح مكة [ يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء والله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا ] وفي لفظ لمسلم أن ذلك كان في حجة الوداع فهذا هو الناسخ وقال سعيد بن جبير : نسختها آيات الميراث إذ المتعة لا ميراث فيها وقالت عائشة والقاسم بن محمد : تحريمها ونسخها في القرآن وذلك قوله تعالى ﴿ والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين ﴾ وليست المنكوحة بالمتعة من أزواجهم ولا مما ملكت أيمانهم فإن من شأن الزوجة أن ترث وتورث وليست المستمتع بها كذلك وقد روي عن ابن عباس أنه قال بجواز المتعة وأنها باقية لم تنسخ وروي عنه أنه رجع عن ذلك عند أن بلغه الناسخ وقد قال بجوازها جماعة من الروافض ولا اعتبار بأقوالهم وقد أتعب نفسه بعض المتأخرين بتكثير الكلام على هذه المسألة وتقوية ما قاله المجوزون لها وليس هذا المقام مقام بيان بطلان كلامه
وقد طولنا البحث ودفعنا الشبه الباطلة التي تمسك بها المجوزون لها في شرحنا للمنتقى فليرجع إليه قوله ﴿ فريضة ﴾ منتصب على المصدرية المؤكدة أو على الحال : أي مفروضة قوله ﴿ ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ﴾ أي : من زيادة أو نقصان في المهر فإن ذلك سائغ عند التراضي هذا عند من قال بأن الآية في النكاح الشرعي وأما عند الجمهور القائلين بأنها في المتعة فالمعنى التراضي في زيادة مدة المتعة أو نقصانها أو في زيادة ما دفعه إليها إلى مقابل الاستمتاع بها أو نقصانه