قوله ٤٣ - ﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ جعل الخطاب خاصا بالمؤمنين لأنهم كانوا يقربون الصلاة حال السكر وأما الكفار فهم لا يقربونها سكارى ولا غير سكارى قوله ﴿ لا تقربوا ﴾ قال أهل اللغة : إذا قيل : لا تقرب بفتح الراء معناه لا تتلبس بالفعل وإذا كان بضم الراء كان معناه : لا تدن منه والمراد هنا : النهي عن التلبس بالصلاة وغشيانها وبه قال جماعة من المفسرين وإليه ذهب أبو حنيفة وقال آخرون : المراد مواضع الصلاة وبه قال الشافعي : وعلى هذا فلا بد من تقدير مضاف ويقوي هذا قوله ﴿ ولا جنبا إلا عابري سبيل ﴾ وقالت طائفة : المراد الصلاة ومواضعها معا لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة ولا يصلون إلا مجتمعين فكانا متلازمين قوله ﴿ وأنتم سكارى ﴾ الجملة في محل نصب على الحال وسكارى جمع سكران مثل كسالى جمع كسلان وقرأ النخعي سكري بفتح السين وهو تكسير سكران وقرأ الأعمش سكرى كحبلى صفة مفردة وقد ذهب العلماء كافة إلى أن المراد بالسكر هنا سكر الخمر إلا الضحاك فإنه قال : المراد سكر النوم وسيأتي بيان سبب نزول الآية وبه يندفع ما يخالف الصواب من هذه الأقوال قوله ﴿ حتى تعلموا ما تقولون ﴾ هذا غاية النهي عن قربان الصلاة في حال السكر : أي حتى يزول عنكم أثر السكر وتعلموا ما تقولونه فإن السكران لا يعلم ما يقوله وقد تمسك بهذا من قال : إن طلاق السكران لا يقع لانه إذا لم يعلم ما يقوله انتفى القصد وبه قال عثمان بن عفان وابن عباس وطاوس وعطاء والقاسم وربيعة وهو قول الليث بن سعد وإسحاق وأبي ثور والمزني واختاره الطحاوي وقال : أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز والسكران معتوه كالموسوس وأجازت طائفة وقوع طلاقه وهو محكي عن عمر بن الخطاب ومعاوية وجماعة من التابعين وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي واختلف قول الشافعي في ذلك وقال مالك : يلزمه الطلاق والقود في الجراح والقتل ولا يلزمه النكاح والبيع قوله ﴿ ولا جنبا ﴾ عطف على محل الجملة الحالية وهي قوله ﴿ وأنتم سكارى ﴾ والجنب لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع لأنه ملحق بالمصدر كالبعد والقرب قال الفراء : يقال : جنب الرجل وأجنب من الجنابة وقيل : يجمع الجنب في لغة على أجناب مثل عنق وأعناق وطنب وأطناب وقوله ﴿ إلا عابري سبيل ﴾ استثناء مفرغ أي : لا تقربوها في حال من الأحوال إلا في حال عبور السبيل والمراد به هنا السفر ويكون محل هذا الاستثناء المفرغ النصب على الحال من ضمير لا تقربوا بعد تقييده بالحال الثانية وهي قوله ﴿ ولا جنبا ﴾ لا بالحال الأولى وهي قوله ﴿ وأنتم سكارى ﴾ فيصير المعنى : لا تقربوا الصلاة حال كونكم جنبا إلا حال السفر فإنه يجوز لكم أن تصلوا بالتيمم وهذا قول علي وابن عباس وابن جبير والحكم وغيرهم قالوا : لا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال إلا المسافر فإنه يتيمم لأن الماء قد يعدم في السفر لا في الحضر فإن الغالب أنه لا يعدم وقال ابن مسعود وعكرمة والنخعي وعمرو بن دينار ومالك والشافعي : عابر السبيل هو المجتاز في المسجد وهو مروي عن ابن عباس فيكون معنى الآية على هذا لا تقربوا مواضع الصلاة : وهي المساجد في حال الجنابة إلا أن تكونوا مجتازين فيها من جانب إلى جانب وفي القول الأول قوة من جهة كون الصلاة فيه باقية على معناها الحقيقي وضعف من جهة ما في حمل عابر السبيل على المسافر وإن معناه : أنه يقرب الصلاة عند عدم الماء بالتيمم فإن هذا الحكم يكون في الحاضر إذا عدم الماء كما يكون في المسافر وفي القول الثاني قوة من جهة عدم التكلف في معنى قوله ﴿ إلا عابري سبيل ﴾ وضعف من جهة حمل الصلاة على مواضعها وبالجملة فالحال الأولى أعني قوله
﴿ وأنتم سكارى ﴾ تقوي بقاء الصلاة على معناها الحقيقي من دون تقدير مضاف وكذلك ما سيأتي من سبب نزول الآية يقوي ذلك وقوله ﴿ إلا عابري سبيل ﴾ يقوي تقدير المضاف : أي لا تقربوا مواضع الصلاة ويمكن أن يقال : إن بعض قيود النهي أعني ﴿ لا تقربوا ﴾ وهو قوله ﴿ وأنتم سكارى ﴾ يدل على أن المراد بالصلاة معناها الحقيقي وبعض قيود النهي وهو قوله ﴿ إلا عابري سبيل ﴾ يدل على أنه المراد مواضع الصلاة ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدال عليه ويكون ذلك بمنزلة نهيين مقيد كل واحد منهما بقيد وهما لا تقربوا الصلاة التي هي ذات الأذكار والأركان وأنتم سكارى ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنبا إلا حال عبوركم في المسجد من جانب إلى جانب وغاية ما يقال في هذا أنه من الجمع بين الحقيقة والمجاز وهو جائز بتأويل مشهور وقال ابن جرير بعد حكايته للقولين : الأولى قول من قال ﴿ ولا جنبا إلا عابري سبيل ﴾ إلا مجتازي طريق فيه وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله :﴿ وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ﴾ فكان معلوما بذلك : أي أن قوله ﴿ ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ﴾ لو كان معنيا به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله
﴿ وإن كنتم مرضى أو على سفر ﴾ معنى مفهوم وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك فإن كان ذلك كذلك فتأويل الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا تقربوها أيضا جنبا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل قال : والعابر السبيل المجتاز مرا وقطعا يقال منه : عبرت هذا الطريق فأنا أعبره عبرا وعبورا ومنه قيل : عبر فلان النهر إذا قطعه وجاوزه ومنه قيل للناقة القوية : هي عبر أسفار لقوتها على قطع الأسفار قال ابن كثير : وهذا الذي نصره يعني ابن جرير هو قول الجمهور وهو الظاهر من الآية انتهى قوله ﴿ حتى تغتسلوا ﴾ غاية للنهي عن قربان الصلاة أو مواضعها حال الجنابة والمعنى : لا تقربوها حال الجنابة حتى تغتسلوا إلا حال عبوركم السبيل قوله ﴿ وإن كنتم مرضى ﴾ المرض عبارة عن خروج البدن عن حد الاعتدال والاعتياد إلى الاعوجاج والشذوذ وهو على ضربين كثير ويسير والمراد هنا : أن يخاف على نفسه التلف أو الضرر باستعمال الماء أو كان ضعيفا في بدنه لا يقدر على الوصول إلى موضع الماء وروي عن الحسن أنه يتطهر وإن مات وهذا باطل يدفعه قوله تعالى ﴿ وما جعل عليكم في الدين من حرج ﴾ وقوله ﴿ ولا تقتلوا أنفسكم ﴾ وقوله :﴿ يريد الله بكم اليسر ﴾ قوله ﴿ أو على سفر ﴾ فيه جواز التيمم لمن صدق عليه اسم المسافر والخلاف مبسوط في كتب الفقه وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يشترط أن يكون سفر قصر وقال قوم : لا بد من ذلك وقد أجمع العلماء على جواز التيمم للمسافر واختلفوا في الحاضر فذهب مالك وأصحابه وأبو حنيفة ومحمد إلى أنه يجوز في الحضر والسفر وقال الشافعي : لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف قوله ﴿ أو جاء أحد منكم من الغائط ﴾ هو المكان المنخفض والمجيء منه كناية عن الحدث والجمع الغيطان والأغواط وكانت العرب تقصد هذا الصنف من المواضع لقضاء الحاجة تسترا عن أعين الناس ثم سمي الحدث الخارج من الإنسان من المواضع لقضاء الحاجة تسترا عن أعين الناس ثم سمي الحدث الخارج من الإنسان غائطا توسعا ويدخل في الغائط جميع الأحداث الناقضة للوضوء قوله ﴿ أو لامستم النساء ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر لامستم وقرأ حمزة والكسائي لمستم قيل : المراد بها بما في القراءتين الجماع وقيل : المراد به مطلق المباشرة وقيل : إنه يجمع الأمرين جميعا وقال محمد بن يزيد المبرد : الأولى في اللغة أن يكون لامستم بمعنى قبلتم ونحوه ولمستم بمعنى : غشيتم
واختلف العلماء في معنى ذلك على أقوال فقالت فرقة : الملامسة هنا مختصة باليد دون الجماع قالوا : والجنب لا سبيل له إلى التيمم بل يغتسل أو يدع الصلاة حتى يجد الماء وقد روي هذا عن عمر بن الخطاب وابن مسعود قال ابن عبد البر : لم يقل بقولهما في هذه المسألة أحد من فقهاء الأمصار من أهل الرأي وحملة الآثار انتهى وأيضا الأحاديث الصحيحة تدفعه وتبطله كحديث عمار وعمران بن حصين وأبي ذر في تيمم الجنب وقالت طائفة : هو الجماع كما في قوله ﴿ ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ﴾ وقوله ﴿ وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ﴾ وهو مروي عن علي وأبي بن كعب وابن عباس ومجاهد وطاوس والحسن وعبيد بن عمير وسعيد بن جبير والشعبي وقتادة ومقاتل بن حبان وأبي حنيفة وقال مالك : الملامس بالجماع يتيمم والملامس باليد يتيمم إذا التذ فإن لمسها بغير شهوة فلا وضوء وبه قال أحمد وإسحاق وقال الشافعي : إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى بدن المرأة سواء كان باليد أو غيرها من أعضاء الجسد انتقضت به الطهارة وإلا فلا وحكاه القرطبي عن ابن مسعود وابن عمر والزهري وربيعة وقال الأوزاعي : إذا كان اللمس باليد نقض الطهر وإن كان بغير اليد لم ينقضه لقوله تعالى ﴿ فلمسوه بأيديهم ﴾ وقد احتجوا بحجج تزعم كل طائفة أن حجتها تدل على أن الملامسة المذكورة في الآية هي ما ذهبت إليه وليس الأمر كذلك فقد اختلفت الصحابة ومن بعدهم في معنى الملامسة المذكورة في الآية وعلى فرض أنها ظاهرة في الجماع فقد ثبتت القراءة المروية عن حمزة والكسائي بلفظ ﴿ أو لامستم ﴾ وهي محتملة بلا شك ولا شبهة ومع الاحتمال فلا تقوم الحجة بالمحتمل وهذا الحكم تعم به البلوى ويثبت به التكليف العام فلا يحل إثباته بمحتمل قد وقع النزاع في مفهومه وإذا عرفت هذا فقد ثبتت السنة الصحيحة بوجوب التيمم على من اجتنب ولم يجد الماء فكان الجنب داخلا في الآية بهذا الدليل وعلى فرض عدم دخوله فالسنة تكفي في ذلك وأما وجوب الوضوء أو التيمم على من لمس المرأة بيده أو بشيء من بدنه فلا يصح القول به استدلالا بهذه الآية لما عرفت من الاحتمال وأما ما استدلوا به من أنه صلى الله عليه و سلم أتاه رجل فقال : يا رسول الله ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها ؟ وليس يأتي الرجل من امرأته شيئا إلا قد أتاه منها غير أنه لم يجامعها فأنزل الله ﴿ أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ﴾ أخرجه أحمد والترمذي والنسائي من حديث معاذ قالوا : فأمره بالوضوء لأنه لمس المرأة ولم يجامعها ولا يخفاك أنه لا دلالة بهذا الحديث على محل النزاع فإن النبي صلى الله عليه و سلم إنما أمره بالوضوء ليأتي بالصلاة التي ذكرها الله سبحانه في هذه الآية إذ لا صلاة إلا بوضوء وأيضا فالحديث منقطع لأنه من رواية ابن أبي ليلى عن معاذ ولم يلقه وإذا عرفت هذا فالأصل البراءة عن هذا الحكم فلا يثبت إلا بدليل خالص عن الشوائب الموجبة لقصوره عن الحجة وأيضا قد ثبت عن عائشة من طرق أنها قالت :[ كان النبي صلى الله عليه و سلم يتوضأ ثم يقبل ثم يصلي ولا يتوضا ] وقد روي هذا الحديث بألفاظ مختلفة رواه أحمد وابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي وابن ماجه وما قيل من أنه من رواية حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة ولم يسمع من عروة فقد رواه أحمد في مسنده من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ورواه ابن جرير من حديث ليث عن عطاء عن عائشة ورواه أحمد أيضا وأبو داود والنسائي من حديث أبي روق الهمداني عن إبراهيم التيمي عن عائشة ورواه أيضا ابن جرير من حديث أم سلمة ورواه أيضا من حديث زينب السهمية ولفظ حديث أم سلمة :[ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقبلها وهو صائم ولا يفطر ولا يحدث وضوءا ] ولفظ حديث زينب السهمية :[ أن النبي صلى الله عل


الصفحة التالية
Icon